تخضع القدس الشرقية لسيادتين مختلفتين، سيادة حقيقية لإسرائيل - بدون اعتراف دولي وعرب-، وسيادة وهميّة تابعة للسلطة الفلسطينية، وذلك بالنظر إلى سياسة وموقف كل منهما باتجاه المدينة، كونها مرتبطة بمصيرهما معاً، بحيث لا تستطيعان التنازل عنها أو أجزاءٍ منها، كمحصّلة نهائية إلى الآن على الأقل.
وكي نفهم الفرق بين السيادة الحقيقية وبين السيادة الوهمية، فإنه يتوجّب علينا تقييم ما تقوم به إسرائيل بشأن تهويد المدينة، وإلى المساعي الفلسطينية التي تهدف بالأساس إلى عرقلة إجراءات ذلك التهويد، فالسيادة الحقيقية هي التي تتوضح من قِبل أيّة جهة تقوم بإثبات أن لها الإدارة الكاملة، وفي قدرتها على مواجهة وصدّ أيّة معوقات من قبل جهات مقابلة، وأمّا السيادة الوهمية، فهي العاجزة عن تأدية أيّة نشاطات يمكن وصفها بالسياديّة، لوجود قوة مضادة، قادرة على منعها من مزاولة أيّ نوع من تلك النشاطات، وهي التي تبدو عليها السلطة الفلسطينية، حيث باتت لا تستطيع ممارسة أية نشاطات، باستثناء تلك التي تتصل بتحشيد الرأيين المحلي والدولي، في سبيل الحصول على موضع قدم، يمكن تسميته كعاصمة للدولة الفلسطينية المنتظرة.
منذ احتلال إسرائيل للمدينة المقدسة، في أعقاب انتصارها في حرب الأيام الستّة عام 1967، وهي تعمل جاهدة لبسط سيطرتها علي المدينة سياسياً، باعتباره تحقيقاً للرؤية الصهيونية، ودينياً أيضاً - وبدرجة أعلى- باعتباره تحقيقاً لتعاليم التوراة اليهودية، وقد قامت باستخدامها العديد من الوسائل لإنجاح مساعيها، برغم منافاتها للقوانين والأعراف والمواثيق الدولية، وسواء باتجاه تغيير معالمها إلى ناحية تهويدها، أو بالمحاولة في إنهاء التواجد المقدسي داخلها، إضافة إلى تأسيسها، على أنها لم تعُد مقتنعة بإمكانية إيجاد تسوية ما، على الرغم من اعتبارها مدينة مُحتلّة، وحتى من قِبل حليفتها الولايات المتحدة، التي تؤيد التفاوض بشأنها وإيجاد حلول. وكانت عجّلت نتائج الدعم الدولي والعربي وحتى الفلسطيني التي وصفت بالسلبية للغاية وغير المقنعة باتجاه المدينة، في إقدام إسرائيل إلى ضمّها قانونيّاً في العام 1980، في إطار القدس الكبرى كعاصمة موحدة لإسرائيل، بحيث لا ترتبط باتفاق سلام، ولا بتدخل من الأمم المتحدة أيضاً، وحذّرت بأن تحريك أي حديث بشأنها من أيّة جهة عدائية أو سياسية بغير الرغبة الإسرائيلية، فإنه لن يكون ناجحاً في جلب السلام إلى المنطقة، وذهبت حيث يتفق اليمين واليسار بهذا الصدد، إلى استكمال مخططاتها الهادفة للسيطرة الكاملة على أنحائها، برغم تطمينات عربية وفلسطينية، بأن تسوية قضية القدس الشرقية كعاصمة فلسطينية، كفيلة بدحرجة كل المشكلات المتعلقة بالصراع العربي- الإسرائيلي، فعلاوةً على زرعها بالمستوطنين والمتشددين منهم، فقد عملت على توسيع حدودها، بهدف ضم العديد من المستوطنات اليهودية، وسواء المدنيّة كمستوطنة معاليه أدوميم أو العسكرية، مثل: مستوطنات ميشور، وكدار، وغفعات زئيف وغيرها، والتي أدّت بالتالي إلى مضاعفة أعداد اليهود على حساب التواجد المقدسي.
وبالتزامن مع تلك النشاطات الاحتلالية، فقد داومت إسرائيل التحذير من محاولات السلطة الفلسطينية، من بسطها ما يُوحي بأنها سيطرة على المدينة من خلال نشاطات سياسية واقتصادية وأمنية، تقول بأنها متجاوزة عن الحد المسموح به، والتي قد تؤدّي إلى عودة التأثيرات التي كانت تحوزها السلطة خلال فترة نشاط مؤسسة (بيت الشرق)، الذي قامت إسرائيل بإغلاقه منذ العام 2001، بحجة أنه يُمثّل خطراً سياسياً يهدد سيادتها في المدينة، ولم يهدأ لها جفن، حتى أعلنت عن اطمئنانها مؤخراً، بأنه لم يتبقً أيّ تواجد مادي لأيّة سلطة فلسطينية هناك، وكما يبدو جاء ترتيباً على انتهاء جولة الاحتجاجات المقدسية الدامية التي حصلت خلال الصيف الفائت. وبرغم أن السلطة تقول بخلاف ذلك، فإن إسرائيل مازالت تثبت جدارتها السياديّة تباعاً، وكأنها تملك رخصة تهويد صامتة، ويشهد بذلك، إعلانها بأنها الآن بصدد تنفيذ خطوة جوهرية جديدة باتجاه تهويد المدينة، والتي تتمثل برسم خرائط هيكليّة لأحيائها، وبتسمية شوارعها وأزقّتها، وبترقيم بيوتها ومؤسساتها، وتحت غطاء تطوير الأحياء العربية، وبحجة تعزيز شعور سكانها بروح الانتماء، إضافةً إلى وضع أهداف قابلة للقياس، أسوةً بجيرانهم اليهود، وتجيئ هذه، تجنّباً لمشكلات قد تثيرها جهات عربية وفلسطينية وخارجية أخرى، برغم علمها بأن شيئاً – مُهمّاً- لن يحدث، بسبب أن الكل وخاصة العربي، مندهش في حاله وأحواله، إمّا بانشغاله بقتال، أو بغرقه بعلاقات مصلحيّة، وإمّا بالتزامه بارتباطات سلام.
وإذا ما تم السبات على هكذا منوال، فإن إسرائيل ستكون مطلقة اليدين، وبوضوح أكثر نحو استلام المدينة كعاصمة (أبديّة- موحّدة) للدولة، وحتى في ظل النظر إليها أمميّاً، كدولة لا تعبأ في عزل نفسها، لأنها تعلم بالمقابل بأن المجتمع الدولي لن يسمح لنفسه بتقديم المعاداة لها، وإن تعلّق الأمر بالمدينة المقدسة، وبالمصير الفلسطيني ككل.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية