أصبح واضحاً الآن، كما كان واضحاً قبل عدة شهور، وكما اتفق معظم المتابعين أن هذه الانتخابات لم تُفضِ إلى مخرج من الاستعصاء الذي عاشته إسرائيل عقب انتخابات نيسان، وفشل نتنياهو في تشكيل الحكومة، وبعد أن أغلق على قائمة «أزرق ـ أبيض» الطريق مجرّد فرصة التكليف ، وبات واضحاً، أيضاً، أن ليبرمان سيفرض (شروطه) لتشكيل حكومة «اتحاد وطني» بدون مشاركة الأحزاب الدينية، وبدون «مؤازرة» القائمة المشتركة.


وحتى هذه المسألة لم تعد «مُسلّمة» لأن بقاء نتنياهو في المشهد أصبح عبئاً كبيراً على «الليكود»، وتخلي «الليكود»، وخصوصاً نتنياهو عن الأحزاب الدينية يعني أنه سيوصف بالغادر والخائن، إضافةً إلى كونه فاسداً، وسيعني أن «الليكود» يغرق في مياه عميقة وآسنة من الانتهازية السياسية.


وأما «الاستعانة» بالقائمة المشتركة فلن تعود هامة، بل ومستثناة في حال تشكيل «حكومة اتحاد وطني» وحكومة من ليبرمان وتحالف «أزرق ـ أبيض» تحتاج إلى القائمة المشتركة، وهو ما يرفضه ليبرمان، وكذلك الأمر مع الأحزاب الدينية. وبقاء نتنياهو على رأس «الليكود» ليس مقبولاً كمرشح لرئاسة الحكومة من «أزرق ـ أبيض»، وهو الأمر الذي يجعل من حكومة «الاتحاد الوطني» نفسها أحجية سياسية في غاية الغرابة والصعوبة والتداخل المركّب.


الحل الأفضل والأسهل للجميع من الأطراف الثلاثة لتشكيل هذه الحكومة التخلص من نتنياهو، ومن الأحزاب الدينية لأن البديل عن ذلك هو الذهاب إلى انتخابات جديدة، وهو ما تخشاه القوى الثلاث لأسباب عديدة ليس أقلها أهمية موقف الجمهور الإسرائيلي نفسه، وإمكانية «معاقبة» من يتحمّل المسؤولية عن إعادة الانتخابات للمرة الثالثة، وعدم ضمان أن لا يكون هناك مرة رابعة وخامسة. والاستخلاص هنا هو أن استعصاء تشكيل حكومة في إسرائيل قد أصبح أكثر صعوبة من المرة السابقة، وقد يفضي إلى حالة من «الفوضى» السياسية فيها.


معالم هذه الفوضى يمكن أن تؤدي إلى «انفراطات» جديدة، وظهور «تحالفات» مباغتة، و»خيانات» غير متوقعة، وقد تصل الأمور إلى شرذمات لا تخلو من احتكاكات، وربما اللجوء إلى العنف.


لكن أخطر ما يمكن أن تصل إليه الأمور هو شعور اليمين المتطرف بالخسران الكبير، وخصوصاً بعد اندثار جماعة «كهانا» من المشهد السياسي الرسمي، وهو ما يمكن أن يصل بهذا اليمين إلى أعمال عنف كبيرة لخلط الأوراق وربما إعادة «اللعبة السياسية» إلى مربعات أولية من شأنها قطع الطريق على «منجزات» هزيمة نتنياهو، وصعود يمين الوسط و ليبرمان وتماسك القائمة المشتركة.


وإذا ما تم «تجاهل واستثناء» الأحزاب الدينية فإن جزءاً من هذه الأحزاب سيتحول إلى أبعد حدود التطرف، لأن خروجها من المشهد السياسي سيؤدي إن عاجلاً أو آجلاً إلى فرض أمر واقع قانوني جديد، سيهدد كل امتيازاتهم، ودورهم ومكانتهم في إسرائيل.


أقصد أن المستوطنين المتطرفين وبعض الأوساط في الأحزاب الدينية، ومجموعات «كهانا» وغيره، قد تجرّ إسرائيل إلى ميادين جديدة من الاعتراك، ليس بمقدور أحد السيطرة عليه، وضمان عدم تحول هذا الاعتراك إلى أعمال عنف كبيرة.


أما إذا تعذر على هذه الجماعات «جرّ» المشهد السياسي الإسرائيلي إلى دائرة العنف فإن هذه الجماعات يمكن أن «تفرّغ» الشحنات الفائضة لديها من العنف والعنصرية نحو المجتمع الفلسطيني بما في ذلك أهلنا في الداخل.


هذا المشهد الغرائبي في إسرائيل ليس سوى التعبير عن أزمة الهروب من الحل السياسي، ومن استحقاقات الديمقراطية، وهي التعبير الأنضج حتى الآن عن العبء الذي يمثله الاحتلال الإسرائيلي على إسرائيل، وما يمثله هذا الاحتلال من حمولة زائدة على الديمقراطية وعلى السلام والاستقرار في هذا الإقليم.


بدأت في الواقع تطل من الافق المرحلة التي تتطلب الإجابة عن اسئلة اسرائيل المغيبة.


من هو اليهودي؟ وهل بالإمكان الجمع بين دولة اليهود والديمقراطية؟ وإلى متى يمكن أن تتمكن اسرائيل من تجاهل الحل السياسي الجدّي؟، وكيف لها أن توفق بين فرض منطق القوة بالعنف المسلح، ومصادرة الأرض وتهديم البيوت، وتحويل حياة ملايين الفلسطينيين إلى جحيم وبين حاجتها إلى الاستقرار؟


وكيف لإسرائيل أن تكون عنصرية وديمقراطية في آن معاً؟ وكيف لها أن تنتظر أن يظل العالم ومنطقة الإقليم عاجزة وواهنة إلى حدود تقبّل ما يجري وكأنه من طبيعة الأشياء؟
ثم ماذا ستفعل إسرائيل إن «أصرّت» على ديمقراطية اليهود فيها؟ بعد عقدين فقط مع 30 ـ 35% من سكانها من العرب. وهل نظام الأبارتايد هو «الحل» السحري لإسرائيل؟ وإذا ما أُجبرت على التخلي عنه، أليس الأفق الوحيد هو «الدولة الواحدة» وصوت واحد لكل مصوّت أو مصوّتة؟


أما البشرى السارة الوحيدة التي أفرزتها هذه الانتخابات هي إعادة صعود القائمة المشتركة، وإعادة الاعتبار الذي كان صاعداً بقوة قبل مرحلة «المراوحة» الأخيرة، وتصالحها مع الجمهور الفلسطيني في الداخل، ما سيؤسس إلى تحول هذه القائمة إلى قوة تغيير وتأثير لا يمكن أن يتم تجاهلها بعد اليوم، كما توقع وسعى لها زعيمها القائد الوطني أيمن عودة.


أما الذين قاطعوا هذه الانتخابات فإن لنا عليهم الكثير من العتب، ولنا عليهم المطالبة بمراجعة مواقفهم، لأن فرصة أن تتحول الأقلية الفلسطينية في الداخل إلى قوة مؤثرة وفاعلة وقادرة على الدفاع عن حقوق هذه الأقلية، وعن حقوق شعبها الفلسطيني هي فرصة قائمة، ولم تعد مسألة تخمين، وإنما غدت واقعاً حقيقياً لم تستطع «المقاطعة» أن تحقق شيئاً فعلياً، وهي لن تتمكن في المستقبل طالما أن العمل في إطار الهوامش «الديمقراطية» ما زال متاحاً.


المراجعة ضرورية عندما تكون النوايا وطنية، أما الذين يقاطعون لأسباب تتعلق بأهداف ومنطلقات خارج الأهداف الوطنية فلا شأن لنا بهم هنا، ولا هم أصلاً في عداد من نعتب عليهم.


لقد تجاوزنا مرحلة المواقف «مسبقة الصنع»، ودخلت الأقلية الفلسطينية منذ زمن بعيد في مرحلة نضج الذات الوطنية، واستكمال مشروع هويتها الوطنية، وبناء أدواتها الكفاحية، وإعادة تموضعها في خارطة الديمغرافيا والجغرافيا الفلسطينية تماماً كما تموضعت اليوم في خارطة السياسة الإسرائيلية، وكما كانت عليه من أهمية ودور في خارطة السياسة الفلسطينية الشاملة.


تقدم «المشتركة» بشرى سارّة وترنّح نتنياهو هو بداية الغيث، وليس مستبعداً أبداً ان يكون الرئيس ترامب قد احتاج إلى حبوب للنوم بعد فرز أكثر من 93% من الأصوات.
شبح ترنّح نتنياهو سيطارد الرئيس ترامب واليمين في العالم كله.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد