مرة أخرى، وبعد أقل من أسبوع، يختفي شاب فلسطيني آخر في مجهول العبور من بلد إلى آخر بحثاً عن موطن آمن. فبعد تامر السلطان الذي رحل بألم، تاركاً غصة في حلوق محبيه، وهو يحاول أن يجد راحة الجسد في المنفى، يختفي الشاب صالح حمد أيضاً في ذات التيه بالطريق بين صربيا والبوسنة بحثاً عن الغرب. الغرب الذي يجدون فيه راحة البال والطمأنينة. كأن الأمر موسم هجرة استثنائي من الشمال إلى الجنوب، عنوان رائعة الطيب صالح، أو بحث عن الحياة الآمنة المتوقعة التي يمكن نشدان المستقبل فيها. أسبوع آخر وأخبار سيئة جديدة. يختفي الشاب صالح حمد وهو يحاول اجتياز الحدود بين صربيا والبوسنة، كما أفاد رفاق له كان يحاولون عبور الحدود مثله، وفق إفادة لوزارة الخارجية. 


شبان في عمر الورد لم يعد لهم متسع في البلاد، ضاقت بهم الأرض بما اتسعت، ولم يعودوا يجدون ما يحلمون به، وإذا توقف الحلم توقفت الحياة. فقط بالحلم يمكن للمستقبل أن يكون جميلاً، الحلم وحده يجعل الانتظار ممكناً. أما حين نفقد الحلم فلا يعود ثمرة شجرة نسقيها بالوعود ونستبشر كلما فكرنا فيها أو نظرنا إليها. شباننا يذهبون بلا رجعة ويفضلون الموت هناك في محاولات عبور الأسلاك وتخطي الأنهار وتجاوز الغابات، على أن ينتظروا اللاشيء في البلاد. اللاشيء الذي هو تعبير جاف لكنه حقيقي عن كلمة المستقبل بالنسبة لهم.
ليست هذه القصص الأولى التي تفجع فيها فلسطين بتلك الأخبار القاسية الواردة من النفي الذاتي الطوعي والخروج بحثاً عن الخلاص الفردي، إذ إن 12 عاماً من عمر الانقسام حملت الكثير من القصص المؤلمة عن غرق فلسطينيين في البحر وهم يحاولون البحث عن الأمل أو أن يجدوا شاطئاً أكثر أماناً من قسوة واقعهم، العشرات اختفوا والمئات وجدوا طريقهم إلى مخيمات اللجوء في أوروبا الغربية ،إما عبر البحر أو عبر اجتياز الحدود مع تركيا ثم منها إلى العالم الأوروبي. منهم من عبر، لكن هناك العشرات الذين أخذهم الموج إلى متاهات الموت التي لا عودة منها. هكذا يظل الوطن مشبوحاً على أهدابهم، كأنهم يأسفون لأنهم غادروه.


يمكن لصحافي محترف أن يكشف الكثير لو نجح في التعرف على طريقة هجرة الشبان الفلسطينيين من غزة إلى أوروبا. الكثير من القصص المثيرة التي كانت خلالها تتم الهجرة عبر البحر من خلال العبور إلى مصر، ومن هناك مثل الكثير من العابرين من بلدان كثيرة إلى أوروبا. المبالغ المالية الطائلة التي يتم دفعها، المخاطر الجمة التي يجب تحملها، والعبور الاضطراري سباحة قبل الوصول إلى الشاطئ الأوروبي، واحتمالات الغرق القاهرة التي من الصعب النجاة منها. كل تلك حكايات مؤلمة تكشف كيف يمكن تحمل المشاق من أجل البحث عن النجاة حتى لو كانت الفرص ضئيلة ضآلة النملة. أما اليوم، فإن العبور يتم من خلال المسالك البرية من تركيا إلى جنوب أوروبا. هذا يتطلب الوصول إلى تركيا. بالنسبة لشاب من غزة فهذا يعني الخروج من معبر رفح المزدحم والانتظار لأشهر أو لعلاقة ما تجعل خروجه ممكناً، وقبل ذلك الحصول على فيزا لتركيا ودفع مبالغ طائلة في الكثير من الحالات، وعند الوصول إلى هناك تبدأ الرحلة الحقيقية المحفوفة بالمخاطر. علاقات متشابكة مع مهربين مختلفين يكون البحث خلالها أفضل وسيلة تهريب للوصول إلى ملاذ في أوروبا الغربية، تحديداً تلك البلدان التي تتبع نظام فيزا "الشينغن" حينها سيسهل العبور من بلد إلى آخر. قصص مأساوية يذهب ضحيتها شبابنا ويغادرون الحياة بعد أن يغادروا البلاد.


الهجرة من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب لم تتوقف يوماً منذ بداية المشروع الاستعماري. وربما في رواية فلوبير "مدام بوفاري" ثمة ذكر للمهاجر الجزائري الذي يعيش في باريس بالقرن التاسع عشر، كما أن حكايات العبور بحثاً عن حياة أفضل ليست بالحكاية الفلسطينية الخالصة. فكل البلاد التي شكلت مركزاً للاستعمار ظلت حتى وقت قريب محطة جذب لسكان مستعمراتها السابقة، وهذا موضوع آخر، إذ إنه في السياق الفلسطيني بحاجة للكثير من التأمل. لأن ما يتم هو خروج تحت سياط اللحظة القاسية التي يعيشها شبابنا. لاحظوا في أوقات سابقة لم تكن الهجرة حلم الشبان رغم أن الحياة لم تكن رغيدة ولم تكن المخاطر بهذه الدرجة، إذ إن الشبان كانوا يعيشون الحياة ما استطاعوا لها سبيلاً. ربما كان هناك إيمان ما بالخلاص الجمعي الذي شكله الفعل النضالي الباحث عن الوطن المسلوب، وحين بات الوطن مقسماً وصار الاحتراب في سبيل السيطرة لدى البعض وليس من أجل البحث عن أفضل السبل لتحرير فلسطين، وحين بات الوهم سلعة رائجة فإن الخلاص الفردي صار هدفاً يجب نشدانه؛ لأن الإيمان بالهدف الجماعي لم يعد موجوداً. الانقسام جزار الأمل الحقيقي، والقاهر الكبير لتطلعات شعبنا، وها هو يودي بهم إلى مهالك المنافي ويرمي بهم في غابات الآخرين حتى يموتوا وتطوى صفحة وجودهم. كم من شباب آخرين يجب أن يرحلوا ويختفوا وتقهرهم رحلة الهرب إلى الملاذ الآمن حتى نفيق. 


من المؤكد أن عنوان المقال يثير التعجب أكثر من بحثه عن إجابة؛ إذ إن أصغر طفل في البلاد يعرف سبب الهجرة القاهرة للشبان المتعلمين المثقفين وهم يسلكون طريق المهجر. البلاد حين تضيق لا شيء يتسع، والنفس حين لا ترى فإن العين لا ترى، والروح حين تختنق لا تسلك أي طريق صحيح. 


يقول الطيب صالح في رائعته المشار لها آنفاً: "كلنا يا بني نسافر وحدنا في نهاية المطاف". لعل الغائب يعود والمفقود يتم العثور عليه، ولعل الوطن يظل أجمل الأشياء في نظرنا وأكثر البلدان سحراً لنفوسنا ونظل نحلم به.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد