ما حدث في غزة من تفجير انتحاريين لنفسيهما هو عمل إجرامي لا يمكن المرور عليه مرور الكرام ولا استسهال تبادل التراشق والاتهامات كما جرت العادة في كل كارثة وطنية، ولا يفيد كثيراً تحميل المسؤوليات أو تبرئة الذات أمام الخطوط الحمراء لأن اللحظة التي يفجر فيها فلسطيني نفسه بفلسطيني آخر فهذا يعني كسرا لكل المحرمات الوطنية وتجاوزاً لكل الخطوط.


ليست المرة الأولى التي يقتل فيها الفلسطيني أخاه. فالسنوات الأخيرة امتلأت بالندوب السوداء في صفحة التاريخ، لكن هناك من يموت في اشتباك لحظي في صراع على السلطة وبين من يموت انتحارياً بقرار هادئ مع سبق الإصرار والترصد، وليست المرة الأولى أن يفجر فلسطيني نفسه فقد سبقت هذه المرة قبل عامين على الحدود المصرية أن قام أحدهم بتفجير نفسه في دورية لحركة حماس وتلك كانت السابقة التي تكررت هذه المرة بعنصرين.


لا أحد يقتنع بأن هناك من هو مستعد للموت بتحريض جهات خارجية أو لارتباطات مخابراتية، فجميع الذين ارتبطوا وتعاملوا مع أعداء شعوبهم فعلوا ذلك تحت الإغراء وحباً للحياة وليس الموت وأن الحديث عن عمل مخابراتي هو تسطيح للكارثة وهروب للأمام وعدم الوقوف أمام ظاهرة هي الأخطر في العلاقات الداخلية ليس بسبب فقدان الأبناء، بل لأنها تهديد حقيقي للمجتمع وضرب لأحد أهم أركانه.


تعبث الأيادي الخارجية، هذا ممكن، ولكن الأخطر أنها تعبث باسم الدين وتستطيع النجاح فقط في مناخات وثقافة معينة، ثقافة من هو مستعد للموت ومن أصبحت لديه قناعة بأنه الحق المطلق وبأن هناك من يستحق أن تقتله لأنه سيدخل به الجنة وأن سبعين امرأة تنتظره في اللحظة التي يموت فيها، وتلك تسهل على أي جهة وسط تلك البيئة والوعي أن توجه لا أن تصنع الحدث أن تضع بصمتها الأخيرة لا الأولى، فالتربية والثقافة هما الأساس هنا ولدينا من أبنائنا الكثير وهنا يصبح إلقاء المسؤولية واستسهال الأمر أو رفع التهمة نوعا من الهروب أمام ثقافة انحرفت أكثر لتصبح مهيأة لمثل هذه الجريمة لكنْ هناك أساس.


الداعشية فكراً ليست أو وليدة أجهزة مخابرات بل هي نتاج تربية وثقافة ووعي، تأتي تلك الأجهزة ان وجدت لتستثمر هذا الفكر لا أن تصنعه وهي موجودة بيننا نربيها بأيدينا بل ونضع كل الإمكانيات لرعايتها اعتقاداً منا أنه يمكن استثمارها، ولكن حين تزداد الجرعة فإنها تنقلب علينا أولاً وهذا ما حدث ويحدث غالباً وهنا ليس المهم من يستثمر بل من يزرع ويهيئ الأرضية.


لا تفيد بيانات الشجب والاستنكار حين تحل الكارثة ما دمنا نسلم بأن هذا الفكر المتطرف بات ينتشر بيننا وعلى مستوى العالم العربي وها هو يدق جرس الإنذار الكبير في غزة بدم ثلاثة لا ذنب لهم سوى أن هناك من اعتقد أنه سيدخل بهم الجنة، وهذه المقولة ليست جديدة في مجتمعنا فلها آباء ومربون وحواضن فالسجون في غزة التي أصبح المتشددون جزءا من نزلائها شهدت نقاشات في محاولة من حركة حماس للتصويب. وسبق لي أن استمعت لأحد أساتذة الجامعة الإسلامية من مدرسي العقيدة الذين أوفدتهم الحركة لإصلاح هؤلاء، وقد تحدث الرجل عما يشبه الفشل في المحاولة، فالنقاش كان يقوم على أساس أيديولوجي عقائدي حيث بات هؤلاء يرون في الحركة أنها لم تعد تحكم بـ»شرع الله» الذي تحدثت عنه طويلاً وأنها لا تسمح بالجهاد كفرض عين مستندين الى الكثير من الحجج.


لكن التهمة التي تقع على الحركة من قبل هؤلاء المنحرفين وهي أنها لا تحكم بشرع الله ما مدى تقاطعها مع أستاذ جامعي لا يتورع عن انتقاد حركة حماس لأنها كما يقول لا تمنع التبرج ومثله كثيرون. والمشكلة أن بعضهم كوادر في الحركة. ألا يعتبر هذا وأمثاله آباء روحيين لـ»داعش» والقاعدة والفكر التحريضي لأن من يتهم «حماس» حينها فإنه يتلقى ما يشبه الفتوى من هذا الرجل.


إذاً، تلك ظاهرة وثقافة بحاجة الى علاج حقيقي، والإنكار هنا لا يفيد كمن يدفن رأسه في الرمال وقد يكون قد ساهم بالتخفيف من وطأتها. هو الصراع الذي ان فتح في الإقليم ليجدوا في سورية متنفساً لتفريغ تلك الثقافة وتحويلها لممارسة في غاية القسوة والعنف ومعظمهم قتلوا هناك. لكن المدعاة للقراءة بالتدقيق بالأسماء يمكن ببساطة معرفة انتمائهم السابق وحواضنهم التي نشؤوا وتخرجوا منها. وهنا السؤال الكبير لماذا؟ وتلك وحدها ربما تعطي نوعا من الإجابة واجبة المعالجة.


منذ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة بدأت تلك الحالات السلفية بالظهور والانتشار قد يكون بعضها كردة فعل على دخول الحركة للسلطة وبدئها البحث عن تهدئات وقبولها لتسكين ما يعتبرونه «جهاد فرض العين»، وقد ترافق ذلك مع حالة فقر شديدة دخلها قطاع غزة بفعل الحصار والفقر كما يقول علماء الاجتماع هو الدفيئة التي تنمو بها كل الأفكار الشريرة والمتطرفة فإن المناطق الأكثر فقراً حسب إحصائيات الدول هي الأكثر تعداداً للجرائم. ولكن حين يتصادف الفقر مع توربينات شحن العداء للآخر حتى الوطني أو ابن الوطن والتعامل معه باعتباره خارجا عن الملة أو يواجه بتهمة العلماني أو الكافر ولأن لا معايير للاتهامات يصبح من السهل أن يستل أحدنا آية أو نصاً عقائديا يتم تفصيله لتبرير جريمة القتل وهذا ما حدث في غزة عندما أقدم أولئك المتطرفون في الانحراف على تفجير أنفسهم.


الداعشية ثقافة كامنة فينا، ومن يؤيد قتل الفلسطيني للفلسطيني هو داعشي، ومن يؤيد أن يتفجر الأخ بأخيه هو داعشي، ومن يعتقد أنه بعد القتل سيذهب للجنة داعشي، ومن يؤيد شطب وإقصاء الآخر داعشي، ومن يعتدي على الناس داعشي ومن لا يحترم الآخر داعشي ومن يكفر ويخون هو داعشي. والمفارقة أن كل هؤلاء وبالدراسة تخرجوا من حلقات المساجد، هذه المرة من مسجد يتبع للجهاد وقبله من مساجد أخرى وتلك بحاجة الى قراءة لنضع أيدينا من أين يأتي الانحراف عندما تزيد الجريمة وكيف تتم حضانته ورعايته وتغذيته ومن هم آباؤه وأهله.


الظواهر السلبية تتم قراءتها ومتابعتها لدى الدول جميعها وتخضع لمعايير الأصل والبيئة والوعي والجغرافيا لوضع العلاج المناسب لها، ان العلاج الأمني رغم أهميته ورغم أن حركة حماس وأمنها كان نشيطاً خلال الأعوام الماضية في ملاحقة الظاهرة إلا أن الأصل تجفيف منابعها. هذا هو الأهم لأنها تنشأ في بيئة ما وثقافة ما وآباء ما.
تابعوا بعضهم على الـ»سوشيال ميديا» لتعرفوا كيف يصدرون الفتاوى...!!!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد