تفتقت العقلية الاحتلالية الإسرائيلية عن حل "إبداعي" للتخلص من همّ قطاع غزة ، وذلك من خلال تهجير سكانه منه عبر فتح مطار في الجنوب وتوفير الإمكانية لنقل السكان إلى المطار بقوافل ومن هناك إلى أية دولة ترغب في استقبال الغزيين. غير أن هذا الحل لم يجد دولة واحدة مستعدة لتوفير ملاذ لهؤلاء المواطنين الذين يثقلون على كاهل إسرائيل التي ظنت أنها ستتخلص من غزة بمجرد خروج قواتها ومستوطنيها منها، لتكتشف أن هذا المكان الأكثر ازدحاماً في الكون سيلاحق الاحتلال وسيُقض مضاجعه. فالانسحاب أحادي الجانب بدون حل القضية الفلسطينية من كافة جوانبها عملياً ساهم في تعقيد الوضع، ففي غزة لم ينته الاحتلال، ومع استمرار وتكثيف وتيرة المشروع الاستيطاني التهويدي التصفوي تبدو الأمور أكثر صعوبة مما يمكن أن تتصوره القيادات السياسية في إسرائيل.
مشكلة غزة الجوهرية تكمن في أنها البقعة التي لا يريدها أحد، وفي نفس الوقت لا يمكن التخلص من همومها وتبعات ما يحدث فيها. فغزة لا يمكنها أن تعيش لوحدها بمعزل عن باقي الوطن المحتل ولا أمل لأن تستطيع " حماس " السلطة المسيطرة على غزة أن تحكمها لفترة طويلة بدون معالجة كافة احتياجاتها والاستجابة لمتطلبات مليوني مواطن فيها. فالاحتلال الإسرائيلي الذي لا يزال يغلق الطوق على غزة ويتحكم بها براً وجواً وبحراً يتعامل مع السكان كرهينة لحاجاته الأمنية دون الاستجابة بالضرورة لمصالح واحتياجات سكان القطاع. وفي المقابل تلعب "حماس" مع إسرائيل لعبة شد الحبال على أمل أن تساهم الرغبة الإسرائيلية في الإبقاء على الانقسام في إطالة عمر حكم الحركة. ولكن هذه اللعبة التي تغلف باتفاقات تهدئة لا تصمد أمام ضغط الواقع لم تحل مشاكل غزة ولم تساعد "حماس" في التخلص من أعباء الحكم باعتبارها المسؤولة عن الناس هناك.
مع الوقت يتضح لكل اللاعبين أن غزة لا تمثل الحل بل هي لعنة تلحق بكل من يحاول التخلص منها أو يجعلها الممر لتصفية القضية الفلسطينية. فإسرائيل تواجه مشكلة عويصة تتعلق بالتهديد الأمني المنطلق من غزة والذي بات يطال مناطق واسعة فيها ولا يتعلق فقط بالجوار القريب. ومن غزة يمكن ان تنطلق تهديدات جدية في الضفة المحتلة. مسألة السماح بإدخال الأموال القطرية أشبه بمنح حبوب مسكنة لمريض يعاني من مرض خطير ومزمن. وهي لا تستطيع بأي حال أن تستجيب لحاجات مليوني مواطن يعانون من بطالة تزيد نسبتها على 50%، وفقر وإغلاق وحصار وانعدام أفق وسلطة أمر واقع تهتم لنفسها فقط، ومحاولات شراء الهدوء والأمن بالأموال القطرية هي أن تنجح في ظل الظروف القاهرة التي يعيشها المواطنون اليوم. وخطر غزة سيطال جهات عديدة في المنطقة وسيؤثر على الأمن والاستقرار في المنطقة بأسرها.
أما "حماس" فهي في وضع لا تحسد عليه، فباستثناء نخبة صغيرة جداً من قادة الحركة الذين ينعمون بالأموال والرفاه يعاني أعضاؤها ومؤيدوها من قلة الأموال، فموظفو "حماس" بالرغم من دخول الأموال القطرية لا يحصلون على أكثر من نصف رواتبهم، وانتشر الفقر في صفوفهم، كما انتشرت الرشوة والمحسوبيات بسبب هذا الواقع الاقتصادي السيئ. والذين لا ينتمون لـ"حماس" هم بالتأكيد في وضع أسوأ باستثناء فئة قليلة من موظفي السلطة والعاملين في المنظمات الأهلية والدولية. حتى قطاع رجال الأعمال أفقر ويعاني من مصاعب جمة إلى درجة إفلاس أعداد كبير منهم وبعضهم في السجون أو صدرت أحكام ضدهم. وهذا الوضع بالتأكيد مدعاة للفوضى والفلتان، وهذا ما بدأ في غزة  في الفترة الأخيرة، وظهر في تصريحات قيادات "حمساوية" حذرت من عدم القدرة في السيطرة على الحدود في ظل عدم التزام اسرائيل بتفاهمات التهدئة. حتى أن الفصائل في غزة باتت تهدد بانفجار الوضع وذلك تحت وطأة الصعوبات التي على ما يبدو لن تجد لها حلاً حتى لو استجابت إسرائيل إلى ما وافقت عليه في إطار تفاهمات التهدئة. وعودة السفير القطري محمد العمادي إلى غزة خلال يومين حاملاً ملفات مشروع خط الكهرباء 161 وربما مساعدات لـ60 ألف أسرة فقيرة لن تغير الوضع بصورة جذرية. فلا يمكن احتجاز مواطني القطاع في إطار مشاريع مساعدات تافهة وتحويلهم إلى متسولين بانتظار أن يجود عليهم أحد بمساعدة شهرية لا تسمن ولا تغني من جوع.
والسلطة الفلسطينية بشكل عام بعيدة عن التأثير على ما يجري هناك، والبعض يشعر بعدم المسؤولية عن هذا القسم من الوطن، بانتظار أن تتم أو لا تتم المصالحة. على اعتبار أن "حماس" هي التي تتحمل المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع هناك، وباستثناء بعض ما تقوم به السلطة في دفع أموال في بعض المجالات لا تزال غير قادرة على أن تكون لاعباً جدياً في الساحة الغزية.
نحن الآن بانتظار ما ستقرره إسرائيل بشأن التعامل مع غزة في ظل تهديدات بنيامين نتنياهو بالقيام بحرب قاتلة ضدها، واعتقاد "حماس" والفصائل هناك بأن هذه التهديدات غير جدية وأن إسرائيل تخشى الحرب مع غزة أو هي غير راغبة فيها، خاصة في ظل استمرار حكومة نتنياهو. ولا أحد يفكر بحل جذري لمشكلات غزة بانهاء الانقسام. ولعل المطلوب من "حماس" أكثر من غيرها أن تقوم بالخطوة الأولى، فهي التي تشعر بالمخاطر المترتبة على استمرار هذه المأساة والتي ستدفع "حماس" نتيجتها ثمناً باهظاً مع مرور الوقت.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد