لوحظ في الفترة الماضية قلة استجابة الجماهير الفلسطينية لنداءات ودعوات الفصائل والقيادات على اختلاف مواقفها السياسية والفكرية. وعلى سبيل المثال لم يشارك الناس في تظاهرة مهمة رفضاً لورشة البحرين الخطيرة وكان عدد المشاركين في رام الله أقل من عدد الصحافيين والمصورين. وحتى في قطاع غزة ، لوحظ انخفاض ملموس في المشاركة في المسيرات الأسبوعية علماً بأن المشاركة هناك مدعومة بمواصلات مجانية وسندويتشات وأحياناً رغبة من المشاركين في التخلص من الوضع البائس الذي يعيشونه في ظل الحصار والوضع المأساوي الذي ترزح جماهير قطاع غزة تحت وطأته، وتفضيل الإصابة على البقاء عاطلين عن العمل دون إعالة.


وهناك أسباب عديدة لتراجع الحركة الشعبية المستندة إلى دعوات وقرارات الفصائل، منها وجود السلطة الذي خلق تبايناً واضحاً بين المواطنين والمسؤولين، بحيث ابتعد المسؤولون عن الناس وظهروا في طبقة مختلفة لها امتيازات ولها حاشية مستفيدة بينما بقي المواطنون في مستوى آخر. والأسوأ هنا عدم التواصل مع الجماهير حتى التي تستفيد من السلطة في رواتب ومساعدات اجتماعية وخدمات أخرى مثل التعليم والصحة وما شابه بما في ذلك الأمن الاجتماعي والاقتصادي والشخصي. بل إن الغالبية من الناس لا ترى أن ما تقدمه السلطة إنجاز يمكن أن يسجل لها بل أقل من الواجب، ودائماً هناك سيل من الشكاوى ضد السلطة والقائمين عليها. وهذا لا ينطبق فقط على السلطة الوطنية في تعاطيها مع هموم ومطالب المواطنين في الضفة وغزة، وإنما أيضاً على سلطة الأمر الواقع في غزة التي تتميز بأنها تأخذ ولا تعطي، وأنها تهتم بحزب معين على حساب الغالبية الساحقة من الناس.


وربما لا تعرف السلطة الوطنية كيف يمكنها أن تتواصل مع الجماهير وتسوق نفسها باعتبارها تهتم لمصالحهم ومطالبهم المحقة، وأنها على الرغم من الظروف الصعبة والمعقدة التي تعيشها فلسطين تستطيع أن تحقق شيئاً ما يبقي الناس صامدين على الأرض في مواجهة المشروع الاستيطاني الاقتلاعي الذي تنفذه حكومة أقصى اليمين في إسرائيل. كما أن السلطة لم تقنع الناس بوجود آلية للمحاسبة على الفساد وأن المواطنين متساوون أمام القانون. ويبدو أن غياب العملية الديمقراطية من بين الأسباب التي تقلل الثقة بالمستويات القيادية. فالجمهور لا يشعر أنه يملك وسيلة لمحاسبة من يرى أنهم لا يقومون بواجباتهم أو انهم فاسدون ويستغلون مناصبهم.


ومشكلة السلطة تطال الفصائل الكبيرة المتحكمة بزمام الأمور "فتح" في الضفة الغربية و" حماس " في قطاع غزة. وباقي الفصائل تدور في فلك الفصيلين الكبيرين بصورة أو بأخرى. ولا يظهر في المدى المنظور أي أفق لتشكل تيار ثالث مؤثر في موازاة هذين الفصيلين. فاليسار ضعيف ومحطم وفي أحسن الحالات تابع، حتى لو ادعت بعض فصائله أنها تملك موقفاً مستقلاً ومختلفاً. والحركات الأخرى ليست في حال أفضل.


السبب الثاني المهم من وجهة نظرنا هو الإحباط من الوضع العام، فلا يوجد أي تطور في العملية السياسية وفي الطريق لتحقيق الأهداف الوطنية الكبرى، بل إن الوضع يذهب نحو الأسوأ، وبالرغم من أن الأزمات على المستوى الوطني كانت دائماً المحرك لاندفاع الجماهير نحو الشارع والقيام بالعملية الكفاحية التي غالباً ما تنقذ القيادة وتساعدها. ولكن كان هذا في أوقات ظلت الصلة فيها بين القيادة والناس جيدة وكانت الثقة قائمة بين الطرفين. وفي واقع اليوم، ينعكس الإحباط في الانكفاء والسلبية أكثر من الرغبة في التغيير. وفي هذا السياق، تسمع الناس يقولون: لماذا نفعل طالما أننا لا نرى القيادة على رأس حركتنا وطالما هناك جفاء مع القيادات.


وهناك سبب ثالث، يؤثر سلباً على حركة الشارع وهو تكرار الشعارات التي تطلقها القيادات ولا تنفذ منها شيئاً. فقياداتنا تعودت على الجمل الكبيرة الرنانة التي لا يمكن أن يراها الناس تطبق على ارض الواقع. وهذا بالمناسبة ينطبق على الجميع في الضفة وغزة. ولو ركزت القيادة على شعارات ومواقف محددة حتى لو صغيرة ونفذتها لكانت حظيت بثقة المواطنين بدلاً من الأشياء الكبيرة التي وإن كانت محقة وتعكس رأي الناس وحتى تلك التي تمثل مطالب تحظى بالإجماع. وخير دليل على هذا قرارات المجالس الوطنية والمركزية في السنوات الأخيرة ومنها وقف التنسيق الأمني والقرار الأخير بوقف العمل بالاتفاقات مع إسرائيل. 


كان من الأفضل لو وضعنا القرارات في إطار خطوات متدرجة على أن يبدأ العمل بتطبيق جزء منها فوراً ولنبدأ بقضايا صغيرة ممكنة على طريق تطبيق الكبيرة. فهذا يمكن أن يعيد بناء الثقة بين القيادة والناس ومن ناحية أخرى يجعل العدو يدرك أننا جادون في الذهاب نحو تنفيذ كامل لما نتخذه من قرارات. حتى مسيرات غزة التي بدأت كمسيرات لتحقيق حق العودة، ثم تحولت لمسيرات رفع الحصار وأخيراً أصبحت لتحصيل مبالغ مالية زهيدة لا يمكنها لا رفع الحصار ولا حل مشاكل الناس الكبيرة، وأصبحت وسيلة لدعم حركة حماس أكثر مما هي لتحقيق مطالب وطنية بغض النظر عن حجمها. وأسوأ ما في الأمر هو اصطفاف فصائل كثيرة حول الشعارات التي لم يبق منها شيء عدا الأموال وتسهيلات طفيفة. ولا أحد ينتقد أو يحتج على إدارة هذه العملية ولا على حجم الضحايا والأضرار التي لا تنسجم مع النتائج الحالية أو المتوقعة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد