أكد الوسيط الإفريقي، كما أكد كل من المجلس العسكري وقوى التغيير أن الاتفاق قد تم بالفعل، وان أي إضافات أو تفصيلات لن تحول ـ على ما يبدو ـ دون الذهاب إلى البدء الفعلي بتطبيقه.
في القراءة الأولية لهذا الاتفاق يمكن ملاحظة تجاوز عقبة تشكيل المجلس السيادي، وكذلك الحكومة الانتقالية، وكذلك أولوية إرساء السلام وإنهاء أسباب النزاع المسلح في كل المناطق، وطبعاً المبادئ الدستورية.
كما نعرف جميعاً فقد حملت المرحلة السابقة ـ المرحلة التي تفصل بين إزاحة البشير والإعلان عن هذا الاتفاق ـ الكثير من المخاوف إلى درجة الشك والتشكك في الوصول إلى حلول وسط بين قوى التغيير والمجلس العسكري.
ولم يخلُ الأمر لدى بعض المتابعين ـ وليس لأحد أن يلومهم على ذلك ـ من اليأس التام والإحباط الكامل، ونعي التجربة مبكراً والتنبؤ بفشلها أو تحولها إلى مجرد تجربة مكررة من تجارب ما آلت إليه الأمور من تغييرات لم تطل في الواقع واقع النظام إلا بقدر ما طالت شخوصه أو بعض الجماعات المتنفذة فيه.
لم يكن السبب في هذا اليأس والاحباط في الواقع "تطرف" مطالب قوى التغيير ـ كما حاول أن يوحي بعض الأوساط المحسوبة على المجلس العسكري، وكذلك بعض الأوساط الإقليمية الداعمة لهذا المجلس ـ وإنما مواقف المجلس العسكري التي بدت أحياناً، وربما غالباً متعنتة، بل وحاولت بكل الوسائل أن "تتنصل" بصورة مباشرة، وأحيانا بصورة غير مباشرة من الاستحقاقات الجوهرية المطلوبة للوصول إلى القواسم التي من شأنها إخراج السودان من أزمته والعبور به إلى بر الأمان والسلم والاستقرار.
لم يكن المخاض سهلاً على الإطلاق، وقد جرت صراعات مكشوفة وخفية داخل المؤسسة العسكرية، وداخل المجلس العسكري نفسه، كما تم بعض التجاذبات الإقليمية المؤثرة، ولم تسلم قوى التغيير نفسها من صراعات من هذا القبيل بما كان يوحي في بعض اللحظات الحاسمة من خطر تصدعات كبيرة داخلها.
محاولات الانقلاب من قبل أنصار البشير، ودخولهم على خط القتل، باتجاهات مضادة ليس فقط لاتجاهات قوى التغيير، وإنما مضادة أيضاً لتوجهات المجلس العسكري نفسه كان لها الأثر الأكبر في إبداء "ليونة" معينة من المجلس العسكري للوصول إلى الاتفاق الجديد، وذلك لأن هذا المجلس "أدرك" على ما يبدو أن تردده في التعاطي المرن مع مطالب قوى التغيير ليس له سوى نتيجة واحدة وهي عودة حكم البشير بأثواب جديدة وشخوص "جدد" لن يترددوا في ارتكاب مجازر سياسية وأمنية ستطالهم جميعاً، الليّن والمعتدل قبل المتشدد أو المتعنت.
كما أن محاولات قوى الثورة المضادة قد "أقنعت" قوى التغيير بدورها بأن التشدد والإصرار التام على كل موقف بكل تفاصيله سيصب في مصالح هذه القوى المضادة، وربما سيحول فرصة التغيير والنجاح إلى إخفاق محتوم.
من على صفحات "الأيام" رجّحت في مقالات سابقة حول السودان أن يعبر السودان أزمته، وأن يذهب باتجاه حالة وطنية ديمقراطية تنشد إنهاء النزاعات والتفرغ للتنمية، ولملمة الجغرافيا السودانية والديمغرافيا، أيضاً، لأن البلاد عاشت لعقود طويلة تحت حكم شمولي متستر بالدين أفقر خلالها البلاد والعباد، وفرط في جنوبها، ولم ينجح في شيء سوى إبقاء السودان تحت طائلة الملاحقة الدولية، والعوز الشديد والارتهان التام لكل من كان مستعداً للدخول على نهب الثروات الوطنية وتدمير أي آفاق لمستقبل هذا البلد الغني بمصادره البشرية وثرواته الطبيعية.
يعود الفضل كل الفضل في إمكانية عبور السودان للأزمة الطاحنة التي تلمّ بالبلاد، والمختنق السياسي الكبير والخطير الذي عاشه السودان في الآونة الأخيرة إلى وعي وتماسك حركته الوطنية والديمقراطية.
فالحراك الشعبي في السودان تميز من اللحظة الأولى بكونه حراكاً جماهيرياً منظماً، وكان منسقاً في غالب الأحيان، وله قيادة واضحة وعلنية، واعية لكل الأخطار، ولكل التدخلات والتداخلات، والأهم أنها كانت تضبط إيقاع هذا الحراك في معظم اللحظات الحاسمة بدرجة الخطر، وبمواقف ومواضع الطرف المقابل، وفي أغلب الظن، أيضاً، أنها ـ أي القيادة الوطنية الديمقراطية ـ كانت تتحكم بالآليات الجماهيرية التي من شأنها المحافظة الدائمة على سويّة الاتجاه، وعلى حسابات دقيقة لأخطار اللحظات الحاسمة.
الاتفاق الأخير يعطي للمرء دفعة معنوية كبيرة، ويحفّزه على التمسك بالتفاؤل الذي أبداه منذ اللحظات والمراحل الأولى للحراك الشعبي في السودان، بل إن الأمل والمراهنة، على أن يكون السودان أول بلد عربي يخرج سالماً من "ربيعه" المتأخّر، وأن يتجاوز مطبات تحول هذا "الربيع" إلى شتاء قارس.
وإن كان للمرء أن يعيد القراءة إلى دائرة التوقعات، وأن "يغامر" قليلاً في الاستقراء حول مستقبل هذا البلد العزيز على قلوب كل العرب وكل الأحرار في هذا العالم فإن النجاح والتقدم في مسار البناء الديمقراطي فيه بات مرهوناً بسد الطريق على عودة "الإسلام السياسي" فيه من النافذة بعد أن تم طرده من بوابة البلاد.
لا بل وان وعي الحركة الوطنية الديمقراطية في السودان للدور التخريبي والتدميري لـ "الإسلام السياسي" في السودان ربما يكون أحد الروافد المهمة لنجاح الحراك فيه.
لو كان "الإسلام السياسي"، وخصوصاً الجناح "الإخواني" فيه ومنه جزءا لا يتجزأ من الحراك لوضعت يدي على قلبي من مسار الحراك ومآله.
أما وأن "الإسلام السياسي" وجناحه "الإخواني" المستتر والذي مثله البشير هو الخصم الرئيس لهذا الحراك فإن الأمر هنا ينطوي على ميزة لم تتوفر في بلدان عربية أخرى.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية