كلما لاحت في الأفق بارقة أمل، تشير إلى خطوة ما على طريق إنهاء الانقسام، ظهر واحد من بعض قادة حركة « حماس » المعروفين تماماً، للقاصي والداني ولكل متابع كعرابين للانقسام بعد أن كانوا منظرين للانقلاب، ليتشدقوا بما من شأنه وضع العصي في دواليب المصالحة، وبهدف إحباط الخطوة في مهدها، ولا يعدمون الحجة التي يسارعون لإخراجها من «جيب الحاوي» بمنطق أعوج اعتادوا عليه، في ثقافتهم حيث لا مكان للجدل أو المناقشة، فما هم إلا خريجو مدرسة «سمعاً وطاعة أميري»، وترديد كلمة «آمين».


فحتى القرار الرئاسي بوقف العمل بكل الاتفاقيات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي، لم يكن كافياً، لإعلان موقف حاسم من قبل «حماس» تجاه الانقسام، التي كانت قد ردت قبل أيام على تجاوز السلطة لواقعة إطلاق «حماس» للنار على موكب رئيس الحكومة السابق، بهز الأكتاف والقول: إن اتفاق 2017 لم يعد قائماً، وإن السبب في ذلك تشكيل حكومة الدكتور محمد إشتية، مع أن حكومة إشتية هي حكومة البرنامج الوطني، وليست حكومة التكنوقراط، أي حكومة جاءت لمقارعة إسرائيل، وليس للتنسيق معها أو للفصل بين إدارة الشأن العام والمسار السياسي.


مختصر القول: إن ديماغوجيا «حماس» بلا حدود، وهي لن تجد «لبن العصفور» كافياً لو أحضرته لهم لطي ملف الانقسام، الذي تعتبره في حقيقة الأمر أهم منجزاتها على الإطلاق، لذا فإن كل الكفاح من أجل إنهاء الانقسام ووضع حد له ما هو في حقيقة الأمر إلا كفاح سياسي ضد سياسة «حماس» ومحاولة لتعديل مسارها وتقويم برنامجها، الذي لم يكن يرى في اتفاق أوسلو ولا في كل الاتفاقيات اللاحقة له، مشكلة بدليل أنها تقاطعت معه سياسياً ودخلت انتخابات العام 2006 على أساسه، لكنها ترفض برنامج م ت ف وترفض المنظمة نفسها، ولا تقبل الدخول في إطارها إلا إذا تم تغيير المنظمة نفسها وتحويلها إلى منظمة إخوانية.


لكن مع ذلك، فلن نكف - نحن الوطنيين الفلسطينيين - عن مقارعة «حماس» سياسياً، ومتابعة سلوكها الميداني والسياسي العام، إن كان فيما يتعلق بتحالفاتها الإقليمية المنفصلة أو المنفردة عن الكل الوطني، أو فيما يتعلق بسلوكها الداخلي ومنه إدارتها المنفردة والديكتاتورية لقطاع غزة ، منذ شكلت الحكومة العاشرة للسلطة، ومن ثم الانقلاب على السلطة والتحكم بغزة عرفياً وعسكرياً، بأداة ميليشياوية، ودون أي مشاركة لا جماعية ولا شعبية.


كل مطالبات «حماس» بالشراكة السياسية أولاً ما هي مطالب محاصصة ثنائية في أحسن أحوالها، وليست مطالبات بتشكيل قيادي جماعي، ولم يعد الأمر له علاقة بالتخمين أو التوقع السياسي، بل يستند ذلك إلى ما تحقق من سلوك وممارسة ميدانية مستمرة على مدار ثلاثة عقود كاملة.


وليس هناك من تطابق أو مقارنة بين إرث حركة «فتح» في العمل الوطني وإرث «حماس»، فحركة «فتح» دخلت ميدان إدارة الشأن السياسي الوطني العام بمنطق وأداة العمل الجبهوي المشترك، منذ العام 1969 حين دخلت م ت ف، ومعها كل فصائل العمل الوطني، صحيح أن «فتح» قادت العمل الجماعي، طول الوقت، وتحملت مسؤوليته، لكنها لم تتفرد به، وكانت تحترم قرارات المجالس الوطنية بما فيها من فصائل ومنظمات شعبية واتحادات ونقابات، ومن تمثيل لكل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وصولاً إلى إدارة انتخابات العام 2006، حين احترمت نتيجة تلك الانتخابات وفتحت الباب لأول حالة تداول للسلطة الفلسطينية في تاريخ الشعب الفلسطيني.


بالمقابل «حماس» دخلت ميدان الكفاح الوطني بعد انتفاضة العام 1987 متأخرة حتى عن مقارعة الاحتلال بعد العام 67 عشرين عاماً، كانت خلالها متصالحة مع الاحتلال كـ»إخوان مسلمين»، تعد العدة لتحل بديلاً عن م ت ف بتشجيع من الاحتلال نفسه، تماماً كما هي الآن تصر على أن تكون بديلاً لأول سلطة وطنية متحققة على الأرض بتشجيع منه أيضاً، وأصرت حين تم تشكيل القيادة الموحدة للانتفاضة على أن تكون وحدها، تطلق بياناتها الخاصة ولا تنسق مع أحد آخر.


وحين شكلت الحكومة العاشرة لم تشرك أحداً فيها وبالطبع ولا في أي حكومة لها بعد ذلك، ورغم وجود كل فصائل العمل الوطني في قطاع غزة، إلا أن تشكيلاً جماعياً واحداً لم يظهر ولا على المستوى العسكري المقاوم، وما الحديث عن غرفة مشتركة إلا ذر للرماد في العيون، فقرار الحرب والسلم وإدارة اتفاقيات أو تفاهمات التهدئة، ما هي إلا إدارة حمساوية منفردة، وفي التفاصيل هناك ما هو أخطر من هذا بكثير، حين يجري الحديث عن جبي الضرائب أو تقديم الخدمات العامة، أو توزيع الهبات القطرية أو المساعدات الخارجية وغير ذلك.


وعلى الطريق تم طي كل مظاهر العمل الديمقراطي، فلا انتخابات بلدية ولا نقابية، ولا طلابية تذكر، لذا فإن مطالبة «حماس» بالشراكة كلام ينطبق عليه قول الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي بمثله، عار عليك إذا فعلت عظيم. بل ينطبق عليه قوله تعالى عز وجل: «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم».


سؤال تم تأجيله طويلاً في ظل الرغبة المستمرة بإنهاء ملف الانقسام، دون فتح الملفات الداخلية، لكن من يشترط الشراكة وإجراء الانتخابات العامة والتي هي خاضعة في الداخل لتدخل الاحتلال وفي الخارج لتعقيد ظروف الإقامة الفلسطينية في دول الجوار والمنفى، عليه أن يفعل ما هو ممكن في ما هو يسيطر عليه من مناطق فلسطينية، ولعل قطاع غزة هو أقل المناطق الفلسطينية تأثراً بالعوامل الخارجية، بعد أن انسحبت منه إسرائيل من جانب واحد عام 2005.


هذا السؤال بات مطروحاً بقوة، بمناسبة إقدام «حماس» قبل أيام على تعيين رئيس بلدية لمدينة غزة، على طريقة اختياراتها «الشورية» الداخلية، وكأن المنصب ما هو إلا منصب إخواني/حركي، لذا كان الاحتجاج الوطني، الذي أظهر الحاجة إلى أن التغيير الواجب لجوهر «حماس» يتطلب البدء منذ اليوم بمطالبتها بدفع الاستحقاقات الشعبية المتمثلة في إجراء الانتخابات الحرة لكل البلديات والنقابات والاتحادات الشعبية والطلابية والجمعيات، ومن ثم تسليم إدارة غزة، للكل الوطني، على طريق تسليمها للشرعية الوطنية، ودون ذلك ستبقى «حماس» نفسها خاضعة لإرثها وتراثها الفظ والدكتاتوري، والذي يمنع إنهاء الانقسام، لأن إنهاء الانقسام يضع حداً لسلطتها المستبدة المنفردة والمتفردة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد