شكّل قرار القيادة الفلسطينية بوقف جميع الاتفاقيات مع دولة الاحتلال انعطافة مهمة في مسار إعادة تشكيل العلاقة التعاقدية التي أوجدتها اتفاقية أوسلو، كما يمكن اعتباره مرحلة جديدة على طريق الاستقلال الوطني، وصولاً لتمكين الدولة المنشودة.
ولما لم يكن القرار فجائياً، بل كان خطوة متقدمة مهدت له سلسلة من القرارات السابقة التي تبناها المجلسان الوطني والمركزي في دورة الأول الأخيرة ودورتي الثاني الأخيرتين. من المؤكد أن صيغة الإعلان عن القرار تقول لسان حال المثل العربي: لقد بلغ السيل الزبى، وأن الأمور قد وصلت مواصل لا يمكن بعدها الاستمرار في الاحتكام لنفس النمط من العلاقة أو ترك الاتفاقيات السابقة تحكم وتيرة العلاقة بين السلطة ودولة الاحتلال.
الأساس أن المرحلة الجديدة تتطلب تعريفاً جديداً للعلاقة. الأمر الذي حدده المجلس المركزي في دورته السابقة، حين أقر أن العلاقة بين الشعب الفلسطيني وسلطته من جهة، وبين دولة الاحتلال، هي علاقة بين شعب يقع تحت الاحتلال وقوة الاحتلال، وعليه فإن العلاقة لم تعد تعاقدية ولم يكن ثمة وجود أو ضرورة لوجود اتفاقات سابقة، إذ إن مثل هذا النمط من العلاقات يتطلب الاحتكام إلى المواجهة بمستوياتها المختلفة لا التعاقد الكرهي الذي بموجبه تستخدم سلطات الاحتلال القوة من أجل فرض قراراتها على الشعب الفلسطيني ومواصلة التعدي على حقوقه.
صحيح أن مثل هذه العلاقة التعاقدية لم يكن يوماً أمراً مرغوباً، ولو تكن مستويات تحقيقها بالشكل المأمول؛ لاختلال التوازن في العلاقة بسبب طبيعة القوة وغياب العدالة في المؤسسات الدولية العاجزة عن الانتصار للقانون الدولي الذي ضربت دولة الاحتلال عرض الحائط بكل نصوصه، ومع هذا فإن الاتفاقيات السابقة كانت مرحلة أولى في طريق وضع لبنات السلطة الفلسطينية التي هي في جوهرها نواة الدولة.
وربما ثمة مليون سبب يمكن للمرء إذا ما ساقها أن يلعن أوسلو ويعلن أنه معارض شرس لها، لكن ثمة القليل من الأسباب المنطقية التي تجعل من تلك الاتفاقيات في تلك المرحلة من الزمن ضرورة، وذات جدوى. وإن الافتراض بأن زيادة الاستيطان وتغوله على الأراضي الفلسطينية بعد أوسلو لم يكن يجب أن يقع.. لو أن الاتفاق نجح في وضع حد للمشروع الاستيطاني، أمر منطقي. صحيح أنه كان يمكن التفاوض على شروط أكثر متانة وضابطة، لكن كل هذا يعنى أن أحداً لا يفهم طبيعة العلاقات في المنطقة، كما أنه يعكس بصورة مشوشة الافتراض البسيط أن الاتفاقيات مع إسرائيل كان يجب أن تلجم المشروع الاستيطاني. وبظني أن فكرة السلطة كلها قائمة وما زالت يجب أن تظل قائمة على أساس الوجود الفلسطيني داخل الجغرافيا. المشروع الاستيطاني إحلالي بطبيعته وقائم على الطرد والنفي ونقيضه التواجد والتزايد على الأرض، أما وقف التمدد فهذا بحاجة لفهم آخر ولطبيعة اشتباك أخرى. ما أرمى إليه أن الحاجة لوجود السلطة قائمة بوصفها تجسيداً لفكرة البقاء على الأرض.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن من يتوقع أنه كان على إسرائيل أن توقف البناء والتمدد في المستوطنات إنما يفترض أن شهية الاستيطان الإسرائيلي يمكن أن تتوقف دون مشروع إسرائيل الكامل. وأظن أن آباء الوطنية الفلسطينية ومنهم الرئيس أبو مازن كانوا يدركون أن جوهر الحلم الفلسطيني قائم على نقيض نفيه أي التواجد على الأرض، البقاء هنا، لأن العابرين سيعبرون كما عبر من قبلهم وينتهون كما انتهى من قبلهم، أما ملح الأرض فسيبقى. وبغض النظر عن العثرات الكثيرة إلا أن فكرة المشروع ما زالت قائمة. يجب أن نظل على الأرض. ليبقى السؤال كيف نظل هنا؟ وكيف ندير علاقتنا مع دولة الاحتلال.
ببساطة القرارات الجديدة تقول: إن شكل العلاقة لم يعد مقبولاً وإن قبولنا بشكلها السابق لم يعد منطقياً في ظل مواصلة انتهاكها من قبل دولة الاحتلال. الكثير من القراءات لم تفهم بشكل جيد مغزى ذلك. ومن باب الحرص في بعض القراءات ومن باب التقليل من الأهمية في قراءات أخرى، تم النظر في أبعاد خارج نطلق حيز القرارات. وأظن أن بعض التحذيرات لا بد أن يتم النظر لها بجدية.
وحتى لا يتم تجاوز حدود حيز تلك القرارات حتى على صعيد التحليل، فإن وجود السلطة ليس مرتبطاً بشكل العلاقة مع سلطات الاحتلال، بل هو حاجة فلسطينية ذاتية وإن كان تمظهر هذه الحاجة في البداية أخذ شكل العلاقة التعاقدية مع دولة الاحتلال. الآن لم يعد الأمر ممكناً؛ إذ إن البحث عن فك الارتباط في كافة مناحي الحياة يجب أن يكون عنوان المرحلة الجديدة وهو ما جسدته سياسات الرئيس أبو مازن والمنظمة والحكومة. هناك بحث جدي عن مرحلة أخرى يتم فيها دفع مشروع الاستقلال إلى الأمام. إن التحلل من تلك الاتفاقيات التي أثقلت كاهل السلطة وأعاقت تطورها إلى دولة رغم الاعترافات الدولية سيشكل دفعاً قوياً إلى الأمام في مشروع تمكين الدولة القادمة. ما نحن بحاجة له ليس موافقة إسرائيل ولكن الإصرار على المضي قدماً في مشروع التحرر وصولاً إلى الاستقلال. في نهاية المطاف، فإن دولة الأمر الواقع كفيلة بأن تجلب الاعتراف بنفسها.
يظل المطلوب وطنياً هو ما ينقص المشهد. كان يجب من اللحظة الأولى على الكل الوطني أن يقف صفاً واحداً في مواجهة التحديات القادمة. لن يكون الأمر بلا مصاعب، لكن حياتنا تحت الاحتلال مليئة بتلك المصاعب، والاحتلال ليس بحاجة لعذر أو سبب حتى يزيد تلك الصعوبات. إن إنهاء الانقسام وتوحيد مؤسسات السلطة بين الجغرافيا المتاحة ضرورة من أجل توحيد الطاقات والجهود لإنقاذ الحالة الوطنية، وحتى نستطيع أن ننتقل إلى مرحلة جديدة من مراحل إنجاز الاستقلال الوطني عبر تمكين الدولة التي نريدها.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية