رواية (ثرثرة فوق النيل) للأديب الكبير نجيب محفوظ، معظم أحداثها تدور في عوامة فوق نهر النيل، يجتمع فيها بعض المثقفين يومياً للهرب من الواقع البائس المُحيط بهم، إلى عالمهم الخاص المليء بالمخدرات والخمر والجنس والثرثرة الفارغة، فهم يرون أن لا قيمة ولا حاجة لهم، وكما عبّر أحدهم "أن السفينة تسير بدون رأينا أو معونتنا، وأن التفكير بعد ذلك لن يجدي شيئاً، وربما جرَّ وراءه الكدر وضغط الدم". في إحساس مُفرط بعدم القيمة واللاجدوى. الرواية نُشرت عام 1966 قبل النكسة لتُعبّر عن حالة الاغتراب التي يعيشها المثقفون في المجتمع المصري آنذاك، وكل مجتمع يحكمه نظام سياسي تُسيّطر عليه نخبة تحتكر السلطة والثروة، مما يدفعهم لترك كل شيء ليقرره الحكام؛ فيعيشوا حياتهم الخاصة بعد أن فقدوا القدرة على التأثير والتغيير، ومعها فقدوا معنى الحياة والانتماء للوطن والمعايير الأخلاقية.
الرواية تحوّلت إلى فيلم سينمائي بعد النكسة تم انتاجه عام 1971، بعد نهاية عهد الناصرية بموت الزعيم جمال عبدالناصر، وبداية عهد الانفتاح بتوّلي الرئيس أنور السادات الحكم، وهو العصر الذي سماه الكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين بعصر(السداح مداح)، للتعبير عن هيمنة الانفتاح الاستهلاكي، وتراجع الضوابط والمعايير السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفقدان القيم الوطنية والقومية، فجاء الفيلم مُعبّراً عن ذلك العصر بمزيدٍ من الإغراق في حالة اغتراب المواطن بشكل عام عن نظامه السياسي، واغتراب المثقف بشكل خاص عن نظامه السياسي ومجتمعه، فأصبح المثقفون أمام ثلاثة خيارات: إمّا الإلتصاق بالنخبة الحاكمة كشركاء مستفيدين وإمّا مرتزقة متطفلين، أو الانفصال عن النخبة الحاكمة المستبدة الفاسدة ومقاومتها ومن ثم دفع الثمن من قوتهم وحريتهم وربما حياتهم، أو الانعزال عن النخبة الحاكمة بدون مشاركتها أو مقاومتها وهي الحالة التي صورتها الرواية وجسدها الفيلم كنوع من الاغتراب السياسي للمثقفين العرب بشكل عام.
حالة الاغتراب التي يعيشها المثقفون العرب من غير الانتهازيين بنوعيهم: القلة الشركاء أو التُبّع الأذلاء تنطبق على حالتنا الفلسطينية المحكومة بالاحتلال الذي يتحكم بكل تفاصيل الحياة الفلسطينية، بما له من سيطرة على الأرض والشعب؛ فأصبح مصدراًللقهر والإحباط الرئيسي للفلسطينيين، أفراداً وجماعات وشعباً ويأتي بعد الاحتلال السلطة بقسميها: الواقعة تحت الاحتلال أو المُحاصرة من الاحتلال، ككيان سياسي وإداري مُسيطر على جزء من حياة الناس وما أعقبها من مناكفات سياسية وحياتية زادت منسوب القهر والإحباط في قلب وعقل المواطن الفلسطيني، وزادت مستوى الاغتراب السياسي عند المثقف الفلسطيني، وجوهره مجموعة من المشاعر والمدركات تتلخص في : انفصال المثقف عن النظام السياسي شعورياً وعقلياً، والعجز عن التأثير في تغيير مجرى الأحداث السياسية، وانعدام فهم المعنى السياسي لقرارات أولي الأمر، والإيمان بأنه (مفيش فايدة)، وسيطرة الإحساس بالقهر والمذلة، وفقدان الأمان والأمل، وضياع الطموح والحُلم.
هذه الحالة من الاغتراب السياسي يُجسدّها مجموعة من المثقفين التقيتُ بهم في استراحة معزولة قريبة من شاطئ بحر غزة ، يجتمعون فيها اسبوعياً، بعضهم أصدقائي دعوني لأحد لقاءاتهم، ومنهم موظفوسلطة نصفهم على رأس عمله والنصف الآخر ليس على رأس عمله (مستنكف)، وكلاهما إما رواتبهم مقطوعة لمصلحة وطنية أو مخسوفة لأسباب اقتصادية ومصرفية. ومنهم أصحاب رأي في أحزابهم فضاقت بهم بما رُحبت فأبعدتهم إلى الظل وهامش الفعل، أو ضاقوا هم بأحزابهم فتركوها إلى أجل أو غادروها من غير أمل. ومنهم مثقفون مستقلون لكنهم حالمون وثرثارون ومشاكسون، أحلامهم وردية وثرثرتهم (غير وطنية) ومشاكستهم نكَدية. ووجه الشبه بين أهل العوامة وأهل الاستراحة (الشاليه) هي حالة الاغتراب السياسي واستخدام الثرثرة كوسيلة للهروب من الواقع البائس، أما وجه الاختلاف فهو لجوء أهل العوامة للمخدرات والخمر والجنس للهروب ونسيان الواقع، بينما أهل الاستراحة اكتفوا بشرب الشيشة والشاي والتدخين وأحياناً الشواء على نارٍ هادئة.
ثرثرة أصحاب الاستراحة (غير الوطنية) كانت في مُجملها تأخذ طابعاً حاداً من النقد الذاتي وشمولياً بحيث يطال معظم الأمور انسجاماً مع المثل الشعبي "لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب" تحت تأثير حالة الاغتراب والسخط المهيمنة عليهم، فتحوّلت لنوعٍ من جلد الذات الوطنية. والجلد هنا يعني التركيز على السلبيات دون الايجابيات، ونقاط الضعف دون القوة، والإخفاقات دون الانجازات، فتزيد طينة الإحباط بلة من الإحساس بالخيبة والفشل والهزيمة، وهم بذلك لا يختلفون كثيراً عن إخوانهم المضخمين للذات الوطنية بالمبالغة في تعظيم وتكبير قوتنا وقدراتنا، والمبالغة في تحقير وتصغير قوة وقدرات العدو، والأدهى من ذلك هو تضخيم الذات الحزبية على حساب الذات الوطنية، وتعظيم الانجازات الحزبية على حساب الانجازات الوطنية.
وفي كل الأحوال فالجلد والتضخيم يتناقضان مع منهجية موضوعية هدفها التقييم كمدخل للتقويم والتصويب وتصحيح المسيرة الوطنية، والاستيقاظ من حالة الغفلة والضياع، كما لسان حال أحد ركاب العوامة عندما اكتشف أن غفير العوامة قد فك سلاسلها فانطلقت هائمة على وجهها في النيل، فأراد أن يوقظهم من غفلتهم بصيحته عليهم (فوقوا.. فوقوا)، في إشارة إلى حتمية تحطيم اللامبالاة وعدم الاكتراث، وعدم الاستسلام للعجز والضعف ، وكسر حالة الانهزام والانكسار، فقد تصل نفس الرسالة (فوقوا فوقوا) لأولي الأمر من القادة فينهضوا معاً لاستعادة حُلم الشعب الفلسطيني بالتحرير والعودة والاستقلال.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية