واضح أن مفهوم القدرة هنا لا يقتصر على القوة العسكرية، وواضح أن مفهوم الانتصار هنا هو الانتصار الاستراتيجي. أي انتصار برنامج إسرائيل ورؤيتها.
في المقال السابق خلصتُ إلى أن إسرائيل تحاول حسم الصراع في هذا الإقليم، استناداً إلى معطيات أميركية وما مثّلته الحالة الترامبية من قوة دفع غير مسبوقة نحو الطموحات الإسرائيلية، وإلى معطيات عربية مزرية ومنقسمة وواهنة وتابعة، وكذلك إلى وضع دولي ليس له بعد ملامح راسخة ومستقرة من النضج والتماسك لردع الذين يخططون لاختطاف الإقليم وتهشيمه.
بل ويمكن القول بمزيد من الثقة إن الحالة الداخلية الفلسطينية ربما تكون الحافز الأهم في التفكير الإسرائيلي نحو حسم الصراع.
فحتى لو افترضنا أنه سيعاد انتخاب ترامب لولاية جديدة، فإن قناعة ترامب الأيديولوجية وفريقه مجردة عن عامل الانتخابات في الولايات المتحدة ليست كافية بحد ذاتها لاستمرار "الدفق" الأميركي لصالح إسرائيل، وسيكون على الترامبية في ولايتها الثانية أن تعيد النظر في الكثير من مظاهر التأييد المطلق لكل موقف من المواقف الإسرائيلية.
ناهيكم طبعاً عن إمكانية ما زالت قائمة، ولم تحسم بأي حال، وهي إمكانية أن تسقط الترامبية في الانتخابات القادمة. لكن الأهم على هذا الصعيد هو أن سقوط الترامبية لا يعني بالنسبة لإسرائيل هذه المرة (سقط الذين يحبّون إسرائيل ونجح الذين يحبون إسرائيل).
هذا المتغير هو تغير خطير للغاية وربما سيكون (إذا سقط ترامب) واحداً من الأسباب الجوهرية لسقوط الطموحات الإسرائيلية لحسم الصراع في الإقليم.
بطبيعة الحال هذا لا يعني، ولا يمكن أن يعني نهاية التأييد لإسرائيل من قبل الحزب الديمقراطي، لكن هذا التأييد بعد افتضاح وسفور التحالف بين اليمين الأميركي واليمين الإسرائيلي إلى درجة أثرت بصورة جوهرية على مكانة الحزب الديمقراطي، وعلى فرصه السياسية بصورة كبيرة لم يعد كما كان أبداً.
وكذلك فإن الوضع السياسي في إسرائيل لا يشكل حافزاً لتحقيق طموحاتها في حسم الصراع.
إذ لم تعد مؤكدة بالمطلق عودة نتنياهو لقيادة اليمين واليمين المتطرف فيها، بل لم تعد عودة اليمين واليمين المتطرف لتشكيل الحكومة القادمة "الصافية"، بل وأكثر من ذلك، فإن وحدة اليمين واليمين المتطرف فيها أصبحت على "كف عفريت"، وتحولت الشرذمة على هذا الصعيد إلى إحدى إمكانيات الخارطة السياسية القادمة في إسرائيل.
طبعاً هذا لا يعني توقف الطموحات الإسرائيلية حتى مع سقوط اليمين والحدّ من هيمنته على الحياة السياسية في إسرائيل، ولكن الاندفاعة ستكون مختلفة، والحسم ليس الهدف المباشر، والبحث عن خيارات أخرى يتحول إلى الهمّ الإسرائيلي الأكبر.
عربياً "اكتشف" بعض البلدان العربية "عُقم" ورشة المنامة، "واكتشف" العرب أن لا مجال أبداً لأن يتخلى الشعب الفلسطيني عن وقوفه ضد الخطة الأميركية، وأعادوا "اكتشاف" وحدة الشعب كله في رفض الوساطة الأميركية، وتراجعت كل الأطروحات "الشاذة". وتقدم عليها الخطاب العربي المطالب بتلازم الحل بين الاقتصادي والسياسي، والتأكيد على العودة وحق تقرير المصير وإقامة الدولة الوطنية المستقلة بعاصمتها في القدس الشرقية.
وتبين للولايات المتحدة وإسرائيل أن "شذرات" التطبيع لم تكن في الواقع أكثر من مظاهر "إعلامية" ليس لها في الواقع الرسمي من مكانة كبيرة، وليس لها في الواقع الشعبي من مكان على الإطلاق.
أما بلدان الطموح والنفوذ الإقليمي فإنها في الواقع لا تملك إمكانية مساعدة إسرائيل على حسم الصراع، إن لم نقل إن العكس تماماً هو الصحيح.
فاللعبة التركية في سورية مكشوفة، والعلاقة مع حكومة الوفاق في ليبيا والتحالف مع قطر ليست أكثر من خراميش القطط، وأكثر ما تفعله هو اللعب على التناقضات للحصول على حصة غير مهينة.
فإيران تعرف أن الحرب ضدها صعبة أو مستحيلة، وهي لن تذهب إلى مفاوضات مع الولايات المتحدة من أجل تعزيز الموقع الإسرائيلي، حتى وإن ذهبت، بل إن الاحتمال الأكبر هو أن إيران يمكن أن تتفاوض على دورها بما يقلل من الشأن الإسرائيلي في ضوء أن الصراع على النفوذ في كامل منطقة الإقليم هو أساساً على حصص كل واحدة منهما.
وأما إذا وقعت الحرب (حتى كاحتمال ضعيف) فإن إسرائيل ستدفع من لحمها الحيّ ما لا يمكن احتماله، وما لا يمكن المراهنة على عدم تداعياته الخطيرة على الواقع الإسرائيلي.
بقيت الحالة الداخلية الفلسطينية هي نقطة القوة ونقطة الضعف الكبيرة في هذه المعادلة.
هناك من يرى (وأنا من ضمنهم) أن الوحدة "الميدانية" في مواجهة الخطة الأميركية قائمة.
لماذا لا نذهب إلى انتخابات بقائمة ترضي كل أطراف الطيف السياسي؟
ولماذا لا نشكل حكومة طوارئ وإنقاذ وطني مهمتها الأساسية هي إعادة توحيد المؤسسات الوطنية والتحضير لانتخابات القائمة الواحدة؟
ما الذي يمنع أن تتولى هذه الحكومة الإشراف على الشأن التنموي والصمود الوطني في مواجهة " صفقة القرن "؟!
لو اخترنا خمسة وزراء من "فتح" بمن فيهم رئيس الحكومة الحالي، وأربعة من " حماس " ووزيرين لكل من "الشعبية" و"الديمقراطية" و"حزب الشعب" و"الجهاد" وخمسة وزراء مستقلين فعلياً يوافق عليهم أكثر من ثلثي هذه الأعداد، ووزير واحد لكل فصيل سياسي معترف به من المنظمة.
وبدلاً من 2011، 2017، ووثيقة الأسرى وغيرها وغيرها ألا يمكن أن ننقذ الحالة الوطنية؟
أليس هذا حلاً؟!
لو تم التوصل إلى توافق من هذا النوع ألا يشكل هذا المدخل المناسب لكل أنواع الحلول لكل المشكلات التي ما زالت عالقة؟
أليس هذا مدخلاً مناسباً للتوافق على دخول المنظمة؟
ما دام إسقاط "صفقة القرن" قد تحول إلى هدف للجميع فلماذا لا نشكل الإطار التنفيذي الوطني الذي يحقق هذا الهدف؟
لو تحقق ذلك أو غيره بما يعيد وحدة المؤسسات والأدوات والأهداف الوطنية فكيف لإسرائيل أن تحسم الصراع؟
كل ما يساعد إسرائيل على حسم الصراع مؤقت وانتقالي، وكل ما يساعد الشعب الفلسطيني على تقرير مصيره استراتيجي وقادم لا محالة.
ولهذا فإن حسم الصراع شيء وتأجيجه شيء آخر.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية