أما وأن القتل والذبح أصبحا أمراً يومياً، وتحول تدمير المجتمعات العربية الى ممارسة معتادة وغدت استباحة الدولة الوطنية من أبسط الأمور واكثرها بداهة، وأما وأن كل هذا يجري باسم الدين «ومن أجل» الدين و «تحقيقا» لمقاصد الدين، فقد بات الحوار المعمق والمسؤول اكثر من ضروري واكثر إلحاحاً وراهنية من الكثير والكثير من القضايا والمسائل والمشكلات التي تعصف بالواقع العربي على وجه العموم، وبالواقع الوطني الخاص للكثير من البلدان العربية بما في ذلك الواقع الفلسطيني.
العلاقة بين الدولة وبين الدين والسياسة وبين الدين والمجتمع تحولت في السنوات الأخيرة وخصوصا بعد التحولات التي شهدتها المنطقة جراء تداعيات ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي... تحولت هذه العلاقة الى أُم القضايا والى اللغز الرئيسي الذي من شأن معرفته ومعرفة دوره أن يكشف لنا عن جذر المسائل وأصل المشاكل في عموم بلدان هذا الإقليم، من زاوية الأبعاد السياسية الاجتماعية للصراع الداخلي فيها.
ولكي يكون الحوار جادا ومسؤولا ومعمقاً فعلاً علينا – كما أرى – تنظيم المسألة في بعدها النظري وفي بعدها المنهجي في كل استهدافاتها العملية المباشرة والبعيدة على حد سواء.
في البعد النظري من الواضح أننا أمام مدارس دينية سياسية مختلفة في المنطقة والاتجاه.
فهناك مدرسة تعتبر ان الإسلام هو دين ودولة وان الدولة هي دولة الإسلام، سواء كانت هذه الدولة دينية مباشرة (ثيوقراطية) او دينية من حيث الجوهر ومدنية من حيث المظهر ليس الا.
وداخل هذه المدرسة هناك من يرى ان دولة الخلافة او الإمامة او دولة الشريعة هي واجب ديني لا جدال فيه، وان الحاكمية من حيث المرجعية هي حاكمية إلهية، الأمر الذي يحول الدولة الى مشروع مقدس كما هو الأمر عند سيد قطب وابن تيمية.
مقابل هذه المدرسة هناك جناح او مدرسة لا يعترف أصلا بأن لدى الإسلام نظرية محددة للحكم ولا يرى في الدين الإسلامي جوهراً سياسياً لا على صعيد الحكم ونظامه ولا على صعيد الممارسة السياسية والاجتماعية.
هذه المدرسة ترى ان جوهر الدين هو رسالة وثقافة وان العقيدة بهذا المعنى هي قيمية من حيث الجوهر.
كان علي عبد الرازق هو صاحب المبادرة التاريخية برفض مبدأ الحاكمية وانكار وجود نظرية للحكم في الإسلام، وكان محمد عبده قبل ذلك قد اكد على القيم والثقافة وأنكر حق استخدام الدين في السياسة من خلال مقولته الشهيرة (ما دخل الدين في السياسة الا وأفسدها، وما دخلت السياسة في الدين الا وأفسدته).
وفي اطار الإشارة الى المدارس آنفة الذكر هناك من يعتقد ان واجب اقامة «الدولة» الإسلامية – بغض النظر عن شكلها – هو واجب كل مسلم على كل حال مع الاختلاف حول أسلوب إقامة الدولة الإسلامية.
منهم من يرى ان العنف هو الأسلوب الأجدى حال توفر الظروف لاستخدامه، ومنهم من يرى ان العنف للوصول الى السلطة (الدولة) مؤجل الى مرحلة الإنضاج الاجتماعي، في حين يرى البعض الآخر ان إقامة الدولة (الاستيلاء على السلطة) مسألة منوطة بالانقلاب الفوقي من هدم السلطة السياسية.
خلاصة الأمر هنا هو ان كافة فصائل الإسلام السياسي تتشارك في الدين بوجهين اثنين.
الأول: ان الإسلام دين ودولة وواجب المسلم هو إقامة الدولة الإسلامية الدينية، وان العنف مسألة وقت وظروف، وان الأسلوب للوصول الى السلطة يمكن ان يتدرج ولكنه على جدول الأعمال.
اما الثاني: فهو ان الإسلام ليس مجرد رسالة وقيم وإنما أيدلوجية سياسية مباشرة على جدول الأعمال السياسي، وان مسألة السلطة هي المسألة الأساسي، وان الرسالة الدعاوية كانت مجرد مرحلة من مراحل الوصول إليها.
بين هاتين المسألتين تتداخل قضية التكفير ومنظومة أولوية التصنيف لهذا التكفير.
لهذا كله فإن الموضوع المطروح بصورة شعبوية باعتبار ان جماعات التكفير هي جماعات لا يربطها بالإسلام اية صلة هو موضوع لا يستند الى الواقع، تماما كما انه لا يستند الى التجربة التاريخية الفعلية.
صحيح ان العنف ليس هو المظهر الوحيد لممارسة الفصائل المختلفة للإسلام السياسي، لكن الصحيح ايضا ان ممارسة العنف والتكفير هو جذر من الممارسة التاريخية وجزء من الأيدلوجية الخاصة ببعض هذه الفصائل.
خلاصة القول هنا فإن علاقة الدين بالدولة وعلاقة الدين بالسياسة وعلاقة الدين بالمجتمع كانت دائما علاقة إشكالية وستبقى كذلك الى ان يتم الوصول الى مرحلة من النضج السياسي والاجتماعي والثقافي القادر على حلها.
كل ما تقدم هو موضوع للحوار النظري الضروري ليس فقط بالنسبة للإقليم العربي عموماً ولكنه حوار ضروري بالنسبة لفلسطين على وجه الخصوص.
فلسطين هي أول دولة عربية تم فيها استباحة السلطة الشرعية. وفلسطين على الرغم من كونها مجرد سلطة ومشروع دولة إلا ان طابعها المدني على مستوى المنظمة والسلطة يعتبر حالة متقدمة في الواقع العربي. كما ان فلسطين لديها ارث وطني عريق في التعايش الوطني والتنوع والوحدة الكفاحية بين مختلف التيارات، وهو الأمر الذي يحول الحوار الذي اشرنا إليه الى حوار ملح وراهن وقضية حيوية من شأنها أن تفضي الى حوارات معمقة مع جماعات الإسلام السياسي وموقفها من مسألة العلاقة التي يجب ان تكون عليه قضايا الدين والدولة.
فقد جرى تضليل كبير وتشويه على أعلى الدرجات لمفهوم العلمانية، وصورت العلمانية وكأنها الكفر والإلحاد بعينه، وجرى الترويج المنهجي المنظم للمزاوجة ما بين العلمانية والغزو الثقافي الغربي، علماً أن الواقع القائم يحتم على كل نخب المجتمع بما فيها جماعات الإسلام السياسي العودة الى هذا المفهوم ومناقشة حقيقته وجوهره باعتباره نهجاً وأسلوباً وليس باعتباره أيديولوجيا فكرية وسياسية باعتبار العلمانية طريقة وأسلوبا ومبدأ لصيانة الدين نفسه، بعيدا عن الاستخدام السياسي وبعيدا عن تغول الدولة في استخدامه، وباعتباره أيضا طريقة وأسلوبا لحماية الدولة من سطوة المؤسسة الدينية والأحزاب الدينية التي يمكن ان تحول الدولة الى مجرد ملكية خاصة بها.
ان تقف الدولة على مسافة واحدة من كل مواطن ومواطنة، بحيث لا تقصر هذه المسافة او تطول لأسباب تتعلق بالمعتقد او الديانة، وباعتبار ان أفراد المجتمع هم افراد متساوون أمام دولة القانون باعتبارهم أولا وقبل كل شيء وبعد كل شيء ينتمون الى الوطن الواحد، وهم شركاء فيه، من على هذه القاعدة بالذات فان ذلك هو على ما يبدو الحل الوحيد الذي يعيد بناء العلاقات الوطنية في فلسطين كما في غيرها على أساس المواطنة وليس العرق أو الدين او اللون او الجنس أو أي تصنيف آخر.
لقد حان الوقت للحوار وحان الوقت لكي يتحول هذا الحوار الى ممارسة مسؤولة لمعالجة واحدة من أهم وأخطر قضايا الصراع في هذه المنطقة.
أعتبر هذا المقال مجرد إطار عام لحوار يمكن أن يباشر به بصورة منظمة، ذلك ان عشرات القضايا التي تتصل بهذا الإطار باتت ملحة وراهنة اكثر من أي وقت مضى.
ان كل فصيل وحزب سياسي مطالب ان ينظر بالمرآة لكي يعرف فيما اذا كان مسؤولا عما جرى لبلادنا وعما يجري فيها.
وكل مثقف ومبدع ومفكر وسياسي ونقابي عليه ان يراجع نفسه فيما إذا قام بواجبه حيال شعبه ووطنه والفئات التي ينتمي إليها ويدافع عنها، وفيما اذا قدم ما يجب من واجب حماية مجتمعه من الدمار الذي ينتظره إذا بقيت الأمور تسير على المنوال الذي تسير عليه.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية