ما زلت على قناعة تامة بأن “ صفقة القرن ” المزمع طرحها باعتبارها “خطة سلام أمريكية” لتسوية الصراع العربي-الإسرائيلي، أو تحديدًا لحل القضية الفلسطينية؛ لن تجد طريقها للتنفيذ، فهناك فرق شاسع بين “خطة” أو “صفقة” أو حتى “قرارات” تُتخذ، وبين إمكانية أن يتبلور ذلك كاتفاق مقبول من أطرافه، ويصبح حقيقة واقعة على الأرض. لا شك أن الاتفاقات العربية التي تمت مع إسرائيل تؤكد ذلك، سواء كانت معاهدَتَيْ السلام الإسرائيلية مع مصر والأردن أو اتفاقات أوسلو؛ فكلها لم تُفرض عنوة أو بقرار، بل تمت من خلال مفاوضات سياسية بين الدول المعنية وبإرادة كاملة من قياداتها السياسية. ليس ذلك فقط، بل تدعمت بالقبول الشعبي والموافقة الإقليمية والدولية، وهو الأمر الذي أرى أنه لن يتوافر في “صفقة القرن”.

ومن المؤكد أن هذه الصفقة تفتقد أيضًا إلى أهم العوامل التي تجعلها قابلة للتنفيذ؛ فهناك رفض واضح لها من أهم الأطراف المعنية، وأعني هنا السلطة الفلسطينية، التي عبرت بصدق عن موقف الشعب الفلسطيني. أضف إلى ذلك أن الأطراف العربية والدولية لا تزال متمسكة برؤيتها لحل القضية الفلسطينية طبقًا لمقررات الشرعية الدولية، ومن بينها إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهو ما يتعارض بالتأكيد مع الجانب السياسي للصفقة الذي من المفترض أن يُطرح في مرحلة لاحقة. وفي تقديري أنه من الصعب، بل من المستحيل، أن تغير الأطراف العربية ومعظم الأطراف الدولية مواقفها المؤيدة للقضية الفلسطينية التي تلتزم بها منذ عقود طويلة، والتي ما زالت تعلنها بوضوح في كافة المحافل والمناسبات. 

وفي معرض حديثي حول مؤتمر المنامة الذي انتهت أعماله منذ أيام، وعرض خلاله “جاريد كوشنر” خطته الاقتصادية؛ لا بد أن أشير إلى أن هذا المؤتمر تم تضخيم أعماله وطبيعته بصورة متعمدة قبل أن يُعقد، وذلك بهدف إعطائه الزخم المطلوب الذي لم يتحقق بالشكل الذي كانت واشنطن تأمله، سواء من حيث الحضور والمشاركة أو من حيث النتائج الاقتصادية التي تم الإعلان عنها؛ فكيف يمكن لمبلغ خمسين مليار دولار أن يساهم في تغيير مجرى صراع تاريخي لن ينتهي إلا في حالة واحدة فقط وهي إعطاء الفلسطينيين حقوقهم السياسية المشروعة، وليس مجرد وعدهم بمشروعات تنمية اقتصادية لا تحتاج لمثل هذا المؤتمر، ويمكن أن يقوم بها ويمولها رجال أعمال ومستثمرون فلسطينيون وعرب بعد إقامة الدولة المستقلة أو على الأقل الاتفاق النهائي على إقامتها. 

وهنا لا بد أن أقف عند نقطة ضرورية ومهمة يجب أن يعيها الجميع، خاصة الإخوة الفلسطينيين، وهي أننا يجب أن نبتعد تمامًا عن وضع مؤتمر المنامة في مربع التخوين أو الوطنية؛ فمن المؤكد أن الدول العربية التي شاركت في المؤتمر لم ولن تفرط في ثوابت القضية الفلسطينية، كما أن الدول المقاطعة لم تضف بعدم مشاركتها إنجازًا كبيرًا يُحسب لصالح القضية؛ ذلك أننا إذا تعاملنا مع الأمور بهذا المنطق سوف تكون نظرتنا قاصرة وخاطئة؛ فالدول التي قاطعت ولم تشارك فهذا من حقها ولها مبرراتها واحترامها ولا يجب انتقادها، وهو نفس المنطق الذي يجب أن نسير عليه بالنسبة للدول التي شاركت، فقد كان حضورها عن قناعة وبناء على حسابات محددة، ولها أيضًا احترامها وتقديرها.

وفي رأيي أن هناك مجموعة من المحددات يجب أخذها في الاعتبار عند الحديث عن المشاركة العربية في مؤتمر المنامة، ليس من قبيل الدفاع عنها وإنما تأكيدًا للحقائق. وفي هذا المجال أود الإشارة إلى النقاط التالية: 

– أن الدول العربية المشاركة تعد من أكثر الدول المؤيدة للقضية الفلسطينية؛ فلا يمكن لأحد أن يشكك في مواقف مصر والأردن اللتين تتمتعان بعلاقات قوية مع القيادة الفلسطينية ومع الشعب الفلسطيني. ولا تزال مصر تلعب دورًا رئيسيًّا في ملفي المصالحة والتهدئة. كما أن السعودية هي صاحبة اقتراح المبادرة العربية للسلام، ولم تتوانَ هي ودول الخليج عن تقديم الدعم المادي الكبير لسنوات طويلة مضت وحتى الآن، سواء للسلطة الفلسطينية أو لدعم صمود سكان القدس

– أن مصر تحت قيادة الرئيس “عبدالفتاح السيسي” لم تترك مناسبة إقليمية أو دولية إلا وأكدت خلالها بوضوح موقفها من القضية الفلسطينية، خاصة ضرورة تطبيق مبدأ حل الدولتين، بمعنى إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية تعيش في سلام وأمن واستقرار بجوار دولة إسرائيل. وهذا هو موقفنا الثابت الذي لم ولن يتغير. ولا أريد هنا أن أتحدث تفصيلًا عن موقف مصر التاريخي والمشرف تجاه القضية الفلسطينية على مدار أكثر من نصف قرن.

– أن الحضور العربي (الجزئي) في مثل هذه المؤتمرات قد يُعد مفيدًا من أجل التعرف على أهداف وأبعاد أية خطط مطروحة، ودون أية التزامات أو تعهدات من جانب الأطراف العربية المشاركة. 

– أن المشاركة العربية لا تعني بأي حال من الأحوال الموافقة على أية خطط سياسية تتعارض مع الثوابت الفلسطينية، وهو ما اتضح من تأكيد هذه الدول على مواقفها المعروفة إزاء التسوية السياسية، سواء قبل المؤتمر أو بعده.

– أن هذه المشاركة العربية سوف تتيح المجال أمام تقييم حقيقي وموضوعي لما تطرحه واشنطن من خطط اقتصادية أو سياسية مستقبلية. ومن ثم، يتم اتخاذ خطوات واضحة وصحيحة للتعامل مع هذه الخطط خلال أية مراحل قادمة للصفقة.

– أن الغياب العربي الجماعي سيكون في صالح إسرائيل التي تؤكد في كل المناسبات غياب الشريك العربي أو الفلسطيني حتى في هذه الورشة الاقتصادية المحدودة.

– أن واشنطن في حالة الغياب العربي ستؤكد عدم وجود رغبة لدى الدول العربية في إنهاء هذا الصراع، ومن ثم سيزداد التحالف الإسرائيلي-الأمريكي قوة وتناغمًا. ويجب ألا ننسى أن الولايات المتحدة رغم كل مواقفها المتحيزة ستظل هي الدولة الوحيدة في العالم القادرة على الضغط على إسرائيل إذا كان هذا الأمر ضروريًّا وفي مصلحة الأمن القومي الأمريكي، وبالتالي من الضروري أن نحرص على عدم فقد أدوات الاتصال العربية بل والفلسطينية مع واشنطن.

– من المؤكد أن هناك تنسيقًا عربيًّا – فلسطينيًّا قد تم قبل عقد المؤتمر أو في أعقابه من أجل وضع القيادة الفلسطينية في الصورة والتوافق على طبيعة وشكل التحرك في المرحلة القادمة.

ومع تسليمي بمنطق الدول التي رفضت المشاركة في المؤتمر، وحتى بعض مظاهر التعبير الشعبي السلمي المتحضر التي تمت دون تجاوز؛ إلا أنني أرجو ألا نقف كثيرًا عند مؤتمر المنامة الذي أراه مجرد ندوة اقتصادية في مركز أبحاث، تطرح الرؤى وتخرج بتوصيات ليس لها صفة الإلزام. كما أرجو ألا نعتبر هذا المؤتمر نقطة تحول في الصراع العربي-الإسرائيلي، ولا نعطيه أكثر مما يستحق من اهتمام، وإن كان من المطلوب متابعة نتائجه، إلا أن ذلك يجب أن يتم دون هلع أو فزع. ويكفي ما تم حتى الآن من تعبير عن معارضة رسمية أو شعبية للخطة حتى نتفرغ للمرحلة القادمة الأهم.

وهنا لا بد أن أشير إلى أن الفلسطينيين والدول العربية قد سبق لهم رفض مبادرة الرئيس الأمريكي الأسبق “كلينتون” التي طُرحت في عام 2000 رغم أنها كانت تتضمن نقاطًا إيجابية، ذلك أنها في النهاية لم تتماشَ مع الثوابت المعروفة، خاصة في موضوع القدس، فما بالنا بالموقف الفلسطيني والعربي المتوقع الذي أراهن على إيجابيته وقوته في مواجهة صفقة جديدة تُسقط أهم الحقوق الفلسطينية، سواء كانت الدولة ذات السيادة أو قضيتي القدس واللاجئين.

وهناك نقطة شديدة الأهمية والحساسية أود أن أركز عليها، وهي تمثل الجانب الآخر من النتائج المباشرة التي تمخضت عن هذا المؤتمر واعتبرتها عنصرًا شديد السلبية؛ وهو أن المؤتمر ساهم -إلى حدٍّ ما- في شق الصف العربي (ولو جزئيًّا)، وأعاد إلى الأذهان انقسام الدول العربية إلى عدة محاور تتبادل فيما بينها الانتقادات والاتهامات حتى لو كان على المستوى الشعبي فقط وليس على المستوى الرسمي.

ومن ثم، إذا كانت خطة “كوشنر” (المتواضعة) قد حققت الهدف بتعميق الخلافات العربية فيجب أن أعترف بأنها خطة عبقرية نجحت تمامًا في تحقيق الهدف الأسمى لها. أما إذا كنا نفكر بطريقة منطقية عقلانية بعيدة عن العواطف وأغلقنا ملف هذا المؤتمر المحدود وكأنه لم يكن، فهنا أستطيع أن أجزم بأن الخطة قد فشلت، وأن “صفقة القرن” سوف تشهد نفس الفشل. فالموقف العربي الموحد تجاه ثوابت القضية الفلسطينية سيكون بمثابة العامل الأهم الذي يجب أن نقف عنده ونتحاسب عليه وليس مجرد المشاركة في ورشة عمل لن تسمن ولن تغني من جوع. 

وبالتالي، من الضروري أن نغلق جميعًا ملف مؤتمر المنامة بكل ما عليه من تحفظات وانتقادات أو حتى مديح. بمعنى أنه علينا طيّ هذه الصفحة الاقتصادية المرفوضة (بمفردها)، ثم نبدأ ب فتح ما أسميه الصفحة السياسية التي لا بد أن تشمل رؤيتنا العربية والفلسطينية للتسوية السياسية العادلة. ومن الإنصاف أن أقول إن “صفقة القرن” لم تكن لتُطرح لولا أن هناك فراغًا سياسيًّا عربيًّا وفلسطينيًّا، وغياب رؤيتنا الواقعية للحل التي نستطيع تفعيلها وتسويقها وإقناع المجتمع الدولي بها.

ومن ثم، لا مجال أمامنا الآن إلا أن ننتقل من مرحلة رد الفعل إلى مرحلة الفعل. ولست أبالغ عندما أقول إننا قد امتلكنا ثروة سياسية للحل تمثلت في مبادرة السلام العربية المطروحة منذ أكثر من 17 عامًا، ولكننا للأسف لم نمتلك أبسط أدوات تنفيذها واستسلمنا لتكرارها في بيانات القمم العربية مع كل التقدير للجهد العربي الجماعي المبذول في ظروف شديدة الصعوبة. وفي النهاية جاء “كوشنر” ليعلن منذ أيام أن المبادرة العربية لم تعد صالحة لتكون هي النموذج لحل القضية الفلسطينية ليكمل بذلك حلقات التحيز الأمريكي السافر لإسرائيل (القدس، اللاجئون، مبدأ حل الدولتين، مبادرة السلام العربية)، وهو الأمر الذي يطرح تساؤلًا مهمًّا: ماذا ننتظر حتى نتحرك سياسيًّا ونواجه كل هذه التحديات والمخاطر المتتالية؟ 

وهنا لا بد أن أعيد ما ذكرته في أكثر من مناسبة سابقة، وأرجو ألا يغضب مني الإخوة الفلسطينيون الأعزاء الذين يجب أن أحترم قراراتهم حتى لو تحفظت على بعضها من قبيل الخوف عليهم فقط. فقد أكدت مرارًا وجهة نظري بأن وقف المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية منذ خمس سنوات لم يكن القرار الأنسب رغم كل المبررات والعقبات، فقد حققنا بذلك مطلب إسرائيل الذي كانت تبحث عنه ومنحناها ميزة مجانية. كما أن هناك أطرافًا وقوى إقليمية ليس من مصلحتها هذه المفاوضات باعتبارها مستفيدة من الواقع الحالي الذي لا بد أن نقوم بتغييره.

وفي الوقت نفسه، علينا ألا ننسى أنه طوال هذه السنوات الخمس تحركت إسرائيل بقوة على الأرض الفلسطينية لتغير معالمها، وتحركت بفاعلية إقليميًّا ودوليًّا لتحقق العديد من المكاسب التي تتباهى بها في كل المناسبات، خاصة التطبيع الجزئي مع بعض الدول العربية. وما زلت أرى أن المفاوضات كانت ولا تزال تمثل أكثر العوامل الضاغطة على أية حكومة إسرائيلية، فقد تفاوضت مصر مع إسرائيل لمدة سبع سنوات (بعد توقيع معاهدة السلام) في مفاوضات شاقة ومضنية من أجل استرداد كيلومتر واحد في قضية طابا، وحاولت إسرائيل إعاقة المفاوضات بكل الوسائل التي كنا واعين بها حتى نجحنا في النهاية في إعادة طابا إلى السيادة المصرية.

في النهاية، ومع الوضوح الشديد في مواقف كافة الأطراف، أصبح لزامًا علينا أن تكون لدينا رؤيتنا العربية الفلسطينية المتكاملة لحل القضية الفلسطينية حتى نبدو أمام العالم أننا لسنا فقط أصحاب حق، وإنما لدينا أيضًا خطة سلام عملية قادرين على تفعيلها، تحقق الاستقرار والأمن لجميع دول المنطقة بما فيها إسرائيل. وعلينا أيضًا أن ننقل هذه الخطة بدلًا من أن تكون حبيسة الأدراج والأوراق إلى أن نعرضها على المجتمع الدولي في وقت مناسب نتفق عليه حتى لو تصدت إسرائيل والولايات المتحدة لهذا الجهد العربي الذي أضحى ضروريًّا.

وفي هذا الشأن لدينا خياران رئيسيان من المهم التفكير فيهما بتأنٍّ، واختيار البديل الأكثر واقعية وقبولًا وإمكانية للتنفيذ، وهذان الخياران هما: 

الخيار الأول: إعادة طرح مبادرة السلام العربية المتوافق عليها منذ 17 عامًا (التي لم نقم بتفعيلها حتى الآن) باعتبارها تمثل الموقف العربي النهائي لتسوية القضية الفلسطينية وغير القابل للتنازل عنه مهما كانت النتائج، ورغم الرفض الإسرائيلي والمعارضة الأمريكية للمبادرة. وفي الوقت نفسه، علينا ألا نكتفي بعملية الطرح، وإنما التحرك لبلورة آليات تنفيذية لكافة المبادئ التي تضمنتها المبادرة ونعمل على تسويقها.

الخيار الثاني: بلورة رؤية سياسية عربية فلسطينية جديدة تتمسك بالثوابت التي لا تقبل الجدل، وتأخذ في اعتبارها المتغيرات الإقليمية والدولية، على أن تكون مشفوعة أيضًا بأدوات واقعية لتنفيذها، ونبدأ في تسويقها إقليميًّا ودوليًّا حتى لا نترك المنطقة أو تحديدًا القضية في فراغ سياسي يسمح لأي طرف بطرح ما يراه مناسبًا من وجهة نظره دون خبرة أو معرفة بالمنطقة أو عدم اكتراث بالحقوق الفلسطينية الثابتة.

وفي ضوء ما سبق، علينا سرعة التحرك السياسي والمبادرة، وألا نركن إلى أية اعتراضات من أي طرف إقليمي أو دولي، ثم نقوم بعد ذلك بعملية تقييم لنتائج هذا التحرك حتى نحدد خطواتنا القادمة بشكل مدروس وحسابات دقيقة. فقد أصبحنا لا نمتلك إلا هذا البديل العملي المقبول دوليًّا، خاصة أن القوى الكبرى لا تبحث سوى عن مصالحها فقط. ولنا في اللقاء الثلاثي الأمريكي الإسرائيلي الروسي الذي عُقد في القدس مؤخرًا خير مثال. وفي كل الأحوال، أرى أنه من المهم أن نعلن على الملأ قبولنا بدء التفاوض مع إسرائيل في أي وقت برعاية دولية أو أمريكية متفق عليها وبدون شروط إسرائيلية مسبقة، والتأكيد على أن العملية التفاوضية متى بدأت لا بد أن تشهد مرونة وتنازلات متبادلة ومقبولة من كافة الأطراف.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد