قد لا تكون انتخابات الرئاسة الموريتانية نموذجية، وقد سادها بعض التجاوزات والسقطات وحتى التلاعب، من وجهة نظر المعارضة التي سجلت اعتراضاتها على سير الإجراءات والطعن بها، وقد تكون المعارضة مُحقة في اعتراضاتها، وقد لا تكون، لأنها لم تتعود على أصول اللعبة الديمقراطية، ولكن أن تتم الانتخابات الرئاسية في موريتانيا البلد الفقير المحافظ، فهذا تطور مهم، ومهم جداً، وأن لا يترشح الرئيس الممسك بالسلطة وأن يقبل أن يترشح بديل عنه حتى ولو كان صديقاً أو حليفاً له، فهذا تطور غير مسبوق لدى رؤساء بعض الجمهوريات العربية، التي يتم تمديد فترتي الرئاسة عندها لفترة ثالثة ورابعة، ويجوز إلى الأبد لأن الرئيس لا يوجد له بديل، وهو فلتة زمانه، لا يمكن تعويضه، وها هي موريتانيا تكسر هذا التقليد بل وهذا المبدأ الديكتاتوري بإجراء انتخابات رئاسية، لم يترشح فيها الرئيس محمد ولد عبد العزيز، لينجح بديلاً عنه الرئيس محمد ولد الغزواني، فهو حدث غير مسبوق لدى الجمهوريات العربية.
لقد سجلت سورية أنها أول بلد اجتاحته الانقلابات العسكرية بعد الحرب العالمية الثانية، انقلاب حسني الزعيم العام 1949، وسجل السودان أنه أول بلد يُسلم فيه العسكر الحكم للمدنيين، سوار الذهب مع الصادق المهدي العام 1986، وأن تونس أول من انتصرت فيه ومن خلاله ثورة الربيع العربي 2011، وها هي موريتانيا العام 2019 تدخل التاريخ مُسجلة لأول رئيس عربي لا يترشح للرئاسة وهو في السلطة، أي أنه يُسجل عنواناً نتمناه كعرب ونرجوه ونتوسل أن يبقى ويترسخ كتقليد في بلادنا وعنوانه: تداول السلطة دون عنف وانقلابات وتسلط وأحادية، ولذلك نقبل ونتكيف مع بعض التجاوزات والسقطات ونقفز عن بعض التلاعب مقابل استمرار أسلوب وشكل ومبدأ تداول السلطة، وهو ما نرجوه لتونس ونتمناه للجزائر والسودان، بعد سقوط عبد العزيز بوتفليقة و عمر البشير وهزيمتهما، حيث ما زال الصراع محتدماً في الجزائر والسودان بين المدنيين والعسكر حول استلام السلطة في البلدين.
لقد عانى شعب موريتانيا العربي المسلم من الانقلابات وتسلط العسكر، مثلهم مثل العديد من الشعوب العربية الذين تم التسلط عليهم تحت رايات الوطنية والقومية واليسار والإسلام السياسي، وثبت كذبهم وافتراءاتهم على الفكر الوطني أو القومي أو اليساري أو الإسلامي، وكانوا يستعملونها كغطاء لوصولهم إلى السلطة والتشبث بها، حتى انكشف حكم العسكر بكل البلدان التي حكموها وفقدوا مصداقيتهم ولم تعد شعوبنا العربية تثق بثوراتهم وانقلاباتهم، وها هو الوضع في الجزائر والسودان يُثبت أن حركة الشارع بقيادة النقابات المهنية والعمالية والأحزاب، ترفض تسليم السلطة للعسكر الذين يبحثون عن الذرائع لوراثة عمر البشير وعبد العزيز بوتفليقة، ولكن وعي الجزائريين والسودانيين أنضج من ألاعيب العسكر وأجهزتهم وهذا هو ذروة الصراع الذي يجري اليوم في السودان والجزائر.
الشعوب العربية تتطلع إلى تحقيق مصالحها وحاجاتها وضرورياتها عبر: 1. استكمال خطوات الاستقلال السياسي والاقتصادي، 2. تحقيق العدالة الاجتماعية، 3. توفير الديمقراطية وتداول السلطة والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، 4. تحرير فلسطين، وهذا لن يتم إلا عبر توفر رؤساء منتخبين من شعوبهم لفترتين زمنيتين فقط مثل كل الشعوب التي قطعت شوطاً في رسوخ الديمقراطية وتقاليدها، وكذلك توفر حكومات برلمانية حزبية لدى البلدان الملكية كما يحصل لدى المملكة المغربية وكما نسعى نحن في الأردن ونسير على هذا الطريق كما أكدتها أوراق الملك النقاشية.
شعوب بلدان المغرب العربي أعطتنا ما هو مفيد: تونس ثورة الربيع العربي وإنهاء حُكم الفرد المطلق، والمغرب قدم لنا تجربة الحكومات البرلمانية الحزبية، وها هي موريتانيا تُقدم لنا نموذجاً جديداً لصعود رئيس جمهورية عبر صناديق الاقتراع، ومن خلال انتخابات جدية حقيقية مفرحة، وتنافس حقيقي بين مرشحين يتحلون بالمصداقية والتمثيل.
نفرح لموريتانيا ونتطلع إلى نقل هذه التجربة وإشاعتها في الجمهوريات لإنهاء حكم الزعيم والقائد والملهم إلى الأبد.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد