صور..إصرار "إيمان" يقفُ في وجه أكثر حكايا الفقدِ قسوة
غزة / خاص سوا / حلا الحوت / بعد اجتيازها للإجراءات المطلوبة بنجاح، حصلتْ على المنحة الجامعية التي تمنتها، حظها وذكاءها العظيميّن رافقهما انفتاح عائلتها وقَبُول فكرة سفرها تحقيقًا لأحلامها.
قبل عامين ونصف حزمت إيمان أبو عيطة (20 عامًا) امتعتها، ودّعت عائلتها وأصدقائها، ولم تهيء نفسها لأكثر من غربة مؤقتة، فكيف كان لها أن تعلم حينها ان القدر يخبئ لها فراقًا أبديًا، وأن غيوم الفَقد يمكن أن تُمطر صيفًا، موتًا ووجعًا.
عكفت طالبة الأدب الانجليزي والعلوم الحياتية في جامعة كولومبيا في ساوث كارولاينا في الولايات المتحدة منذ بداية العدوان الاسرائيلي الأخير على قطاع غزة في يوليو/تموز الماضي على متابعة أخبار العدوان اولا بأول والتواصل مع عائلتها من ساعة إلى أخرى لتتأكد من أن مكروهًا لم يصبهم.
تقول الشابة في حديث لـ (سوا) أنها تفاجئت في مساء الثالث والعشرين من يوليو بنبأ استهداف الطائرات الاسرائيلية لمنزل يعود لعائلة العجرمي "المجاور لمنزلها" في تل الزعتر في جباليا شمال قطاع غزة ثم ما لبثت أن قرأت نبأ سقوط أربعة شهداء واصابة آخرين.
حاولت إيمان التواصل مع عائلتها للاطمئنان عليها، لكن دون جدوى، وبعد عدة محاولات تمكنت من محادثة شقيقتها التي اخبرتها بإصابة شقيقها "احمد" بجروح، ومن ثم سارعتْ الى اغلاق الهاتف دون ان تفهم شيئًا، "فقلت في نفسي من المؤكد أنها إصابة طفيفة".
فائض وجع
وحين قرأت خبرًا يفيد بارتفاع عدد الشهداء الى خمسة عاودتْ الاتصال بأقاربها واحدًا واحدًا, إلى أن علمتْ بالحقيقة المروّعة، وهي استشهاد والدها ابراهيم 67 عامًا، ووالدتها جميلة 54 عامًا، وشقيقيّها محمد 33 عامًا واحمد 30 عامًا وابنه ادهم 4 أعوام، واصابة باقي افراد عائلتها بإصابات تتراوح بين الخطيرة والمتوسطة.
بدأت المأساة عندما اشتد القصف الاسرائيلي فجرًا، ما دفع عائلة أبو عيطة التي تسكن منزلا من ثلاثة طوابق الى اللجوء للطابق الارضي ظنًا منها انه الاكثُر أمنًا، الا ان صواريخ الاحتلال باغتتهم فيه ودمرته عن اخره، ليكون أكثر طوابق المنزل تدميرًا وأقربها إلى الموت.
تروي الشابة بغصة "نزل الخبر علّي كالصاعقة، لم اتوقع ان يخطف القصف الاسرائيلي أرواحهم بلا رحمة، يصعب عليّ تجاوز الصدمة رُغم مساندة أصدقائي لي، ففور سماعهم للخبر حاولوا البقاء بجانبي وأبدوا تضامنهم الكبير معي".
تتابع "كم تمنيت لو أن بإمكاني رؤيتهم لآخر مرة قبل دفنهم، هذا اقل ما يمكن ان اطلبه بعد عامين من الغربة، فمنذ مغادرتي قطاع غزة للالتحاق بالجامعة لم يتسنى لي زيارتهم، كنت اخشى من ان زيارة قصيرة قد تكلفني منحتي الدراسية، نظرًا للإغلاقات المتكررة لمعابر القطاع وعدم استقرار اوضاعها".
وتتذكر كيف كانت تخطط الصيف الماضي لزيارة عائلتها لقضاء عطلة نهاية السنة، لكن والديها حذراها من مغبة المجازفة بمنحتها الدراسية بالرغم من اشتياقهما الكبير لها، "لم يعلموا انه في كل الأحوال لم يكتب لي رؤيتهم" تردف بحزن.
قرار صعب
تقول "أبو عيطة" بأسى "بعد الكارثة التي ألمت بعائلتي فكرت أن اترك كل شيء واعود لقطاع غزة، فمن فرط المأساة لم يعد هناك اي معنى لبقائي هنا، لكني تداركت نفسي وقلت بأن عليّ تحقيق ما كانت تتمناه عائلتي".
تتابع "هذا بالإضافة ليقيني بان عدم حصولي على شهادة جامعية لن يمكنني من العثور على وظيفة تحقق لي الاستقرار المادي الذي سيساعدني على اعالة اخواتي الاصغر سنا منال والاء واللتان تعافتا من اصابتيهما مؤخرًا بعد علاجهما في الخارج.
عندما ايقنت ضرورة استكمال دراستها، اعدّت الطالبة النجيبة خطة التخرج المبكر بشكل يمكنها من انهاء دراستها الجامعية في اغسطس/آب المقبل، وبذلك تكون قد حصلت على شهادتي بكالوريوس خلال ثلاث سنوات فقط.
تشير إيمان إلى حاجتها الماسة للعودة الى قطاع غزة في أقرب وقت ممكن لكي "تصدق ما حدث"، فهو يبدو حاليا مثل كابوس مزعج, وكثيرا ما تحاول اقناع نفسها بان شيئًا لم يحدث, وان عائلتها على ما يرام.
وتقول لـ(سوا) أن أكثر لحظة تراودها هي حين عانقتها والدتها وودعتها باكية عند معبر بيت حانون "إيرز" شمال القطاع، فهي لم تكن تعلم حينها انه الوداع الاخير، وكم تتمنى لو عادت تلك اللحظة لتعانقها فترة اطول.
تضيف "في اغسطس القادم لن تستقبلني هي ووالدي عند المعبر، ولن تزيّن المنزل ترحيبًا بقدومي، وسأفتقد والدي كثيرًا فقد كان أبا حنونًا، صديقا رائعًا، وإنسانًا حكيمًا، وكان شغوفًا بالكتابة"، "وكم سيكون المنزل كئيبًا بدون أحمد و محمد رحمهما الله ".
إصرار لم يُهدم
وفازت ايمان مؤخرًا بمسابقة تقيمها جامعتها سنويًا، وعلى المتسابق هذا العام الكتابة عن تجربة ساهمت في وصوله إلى قناعة معينة، ومن بين اكثر من ٣٠ مقالًا قيّمتها لجنة مختصة، اُختير مقال الطالبة الغزاويّة الذي تناول العدوان على غزة ليفوز بالمرتبة الاولى.
تروي الشابة بألم انها كانت قد تقدمت السنة الماضية للمسابقة ولم يحالفها الحظ، فطلبت منها والدتها أن تعيد الكرة العام المقبل، تتابع بحسرة "توثيق الالم ليس بالأمر الهين، لكني كتبت المقال لأفي بوعدي لوالدتي، وها قد فزت ولكن ما معنى الفوز في غياب مَن أُحب".
صاحبة الإرادة القوية تخططُ مستقبلًا لدراسة القانون واستكمال مسيرتها التعليمية في مجال الادب الانجليزي، فاتّباع شغفها الاكاديمي هو اسلوبها الخاص للإمساك بزمام الفوضى الموجودة في حياتها، كما تقول.
وعدا عن نيّتها نشر كتابات والدها بعد ترجمتها للغة الإنجليزية، تُفكر إيمان باختزال معاناة قطاع غزة في كتاب يروي فصول وجعه. كما أسست بالتعاون مع أحد اساتذتها مؤسسة غير ربحية تحت اسم youth for change-Palestine (YFCP) ، سيحاولان من خلالها ايجاد حلول لبعض قضايا الشباب في القطاع.
واطلقت "أبو عيطة" على شرف عائلتها وبالتعاون مع "hope fund" منحة أكاديمية تغطي تكاليف دراسة طالب من غزة لعام دراسي كامل.
إذا، تتعدد حكايا الوجع، ويبقى "فراق الأحبة" أكثرها ايلامًا، وفي المقابل تتعاظم الإرادة، لتكون آخر شيء يمكن أن يتخلى الفلسطينيون عنه.
وهنا نص المقال: http://goo.gl/2D6fu0