فوجئت الاسبوع الماضي وخلال توجهي الى الضفة الغربية في طريقي للمغرب لحضور معرض الدار البيضاء للكتاب بمنعي من السفر من قبل قوات الأمن التابعة ل حماس . وكلمة فوجئت في غزة تبدو مضحكة لأن كل شيء في غزة غير متوقع ويحدث وفق صدف أو ترتيبات لا يعرف منطقها حتى البارعون في حل الألغاز والشيفرات على أنواعها. ما حدث، بعيداً عن تصنيفه، كان عملاً لا يمكن تبريره أو تفسيره أو إعطاؤه أي مسوغ.
إن فكرة أن يتحكم رجل امن في حياة الناس لهي بحد ذاتها معيبة للأخلاق ومُحِطة للكرامة، كما انه تعكس "جودة" الحياة التي يعيشها الناس والمستوى التي تصل فيه علاقة المواطنين بالسلطة السياسية، وهي بلا شك علاقة غير قائمة على عقد اجتماعي يتأسس على تفاهمات تبادلية حول مفهوم التنازل الطوعي عن السلطة الطبيعية للأفراد لصالح سلطة جمعية متفق عليها وفق إرادات ذاتية.
يمكن القول الكثير عن هذا التصرف بوصفه انتهاكا لحقوق الإنسان وسلبا للمواطن لأحد اهم حقوقه المتمثلة في حقه في التنقل وما شابه ذلك، لكنه يثير إلى جانب كل ذلك السؤال حول موقف حماس من الثقافة وعلاقتها بها وماذا فعلت من اجلها.
ويمكن ان يكون هذا مشروعاً ليس بسبب ما جرى معي شخصياً ولكن بعد قرابة ثماني سنوات من تحكم حماس بغزة وما آلت إليه احوال القطاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ورغم أن النقد في بلادنا غير محبوب ومكروه، إلا أنه دونه فإن الحال سيظل على سوئه. وحين يتعلق الامر بالثقافة ومنع كاتب من المغادرة لحضور فعالية ثقافية لأن ثمة جنرالا أو امبراطورا مهووسا بملكوت هواجسه وأفكاره، فإن ما يجري هو خصي للثقافة وتقزيمها، وهي عملية تمت ببطء وبتدرج وبصبر خلال السنوات الماضية. حتى أن أضحت فصائل العمل الوطني للأسف على اختلافها في ذلك مع حماس لا تتحرك إلا في المساحة الضيقة المتاحة لها من قبل حماس. وهذا يعكس ماهية الثقافة السياسية السائدة.
ماذا فعلت حماس للثقافة خلال السنوات السبع الماضية منذ سيطرتها على غزة؟ كم كتاباً طبعت؟ كم مهرجاناً ادبياً رعت ونظمت؟ كم مؤتمراً ادبياً أقامت للبحث في واقع الأدب الفلسطيني؟ كما موهبة تم رعايتها والعمل على تنميتها؟ كم مسرحاً تم تشييده أو دار سينما تم بناؤها؟ كم مسابقة أدبية تم رعايتها وتم خلالها رفد المشهد الادبي بقدرات جديدة؟. أسئلة مشروعة يمكن توسيع علامات الاستفهام لتشمل الكثير من الفعاليات الثقافية.
المؤكد ان الثقافة أكثر ضحايا الإنقسام تاثراً بجراحها، رغم أن احداً لا يلتفت لها ولأهميتها. ومن السهل رمي كل شيء، طبقاً للسابق، على كاهل الإنقسام. لكن ايضاً من حقنا أن نسأل حماس ماذا فعلت للثقافة، وماذا قدمت من اجل تطويرها؟ بل إن البعض قد يرغب بالسؤال عن ماهية الثقافة التي ترغبها حماس او ترغب أن تسعى ورائها.
بالطبع هذا لا يشمل الثقافة الحزبية التي لابد أن تكون قد تدللت وتم الصرف عليها كثيراً، وهذا قد لا يكون معيباً فهو حق حزبي وشان حزبي صرف، لكن حين يتعلق الامر بالثقافة العامة والواجبات كحكومة فإن السؤال يكون اكثر عمقاً، واستحقاقاته اكبر.
يمكن تلمس بعض الاجابات.
وكثيرها موجود في تقارير حقوق الإنسان ولا يقع في باب الاجتهاد او التجريح. فقط نظرة سريعة يمكن ان تتحدث عن عشرات الانتهاكات والمنع لنشاطات ثقافية وفعاليات ادبية وتقاليد تراثية. أيضاً إلى جانب ذلك يمكن تفكيك منظومة مؤسسة العمل الثقافي للكشف عن التصور الحزبي الصرف للاشتباك الثقافي. مثلاً أقامت حماس اتحاداً موازياً لكل اتحاد موجود في خطوة لا يمكن فهمها إلا انها تعزيز للانقسام حيث تم نقل آفته اللعينة إلى اكثر الأشياء حصانة ضده: الثقافة. مثلاً قامت حماس بتأسيس رابطة الكتاب والادباء الفلسطينيين في غزة لتكون بديلاً لاتحاد الكتاب والادباء الفلسطينيين رغم أن الكثير من الكتاب المحسوبين على حماس وبعضهم قادة فيها وناطقون رسميون باسمها هم اعضاء في الاتحاد، وحين منحت لهم العضوية لم يسألهم أحد عن حزبهم او انتمائهم، لأن الانتماء الوحيد هو الانتماء للكتابة. بالطبع لا حاجة ادبية ولا ضرورة إبداعية لوجود مثل هذه الرابطة إلا تأسيس أجسام بديلة لاتحاد ترأسه غسان كنفاني وأبو سلمى ومحمود درويش وغيرهم، وشعاره "بالدم نكتب لفلسطين".
والأمر ذاته ينسحب على الاتحادات الأخرى مثل اتحاد الفنانين ونقابة الصحافيين. كل هذه الإجراءات ليست بمساهمات بل معاول هدم في جسد الثقافة المنهك أصلاً والذي لم يجد من يضمد جراحه بل يعززها.
وحالة الثقافة الفلسطينية هو ان تخرج مسيرة في غزة لداعش تجوب شوارع غزة ومرخصة طبعاً كما قيل، فيما لا تخرج تظاهرة صغيرة ضد جريمة داعش بحق الطيار الأردني الكساسبة وما شكله حرقه من اعتداء صارخ على تعاليم الإسلام الحنيفة. هو ان يتم تقديم غزة بوصفها مسرحاً محتملاً للتطرف لا مكاناً يعكس التنوع الذي يحمله قلب البحر الذي تشاطئه المدينة المنكوبة بحروب مستمرة من قبل أكبر آلة بطش في التاريخ.
ان يرتبط مصير القطاع بأهواء وخيالات شخصية للبعض هو رمي للقطاع ومستقبله السياسي ولهويته الوطنية في متاهات لن يخرج منها بسهولة. إن فكرة منع مواطن من الخروج من وطنه لا يمارسها إلا الاحتلال، وإن قمع الحريات لا يمكن ان يمارسه شعب يبحث عن الحرية، ليس من باب فاقد الشيء لا يعطيه، بل من باب ان الحرية هي أساس الكرامة الوطنية، ولا يصادرها من يبحث عنها أساساً. أسوأ اناس في الحكم هم من يحترفون البلاغة والخطابة، لأن قواعد الحكم ليست بحاجة للكثير من الكلمات المقعرة والعبارات الجوفاء، بل بحاجة لاجراءات عملية تنتشل الناس من قسوة الظروف إلى بحبوحة ورخاء. اما أولئك المترفون في قواميسهم، الذين لا يرون كيف يتغير العالم حولهم، فسيظلون مكبلين باوهامهم عن الحقيقة التي حتماً هي خارج عقولهم ولا تربطهم بها أي صلة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية