كثيرة هي المفاهيم والمقولات في أدبيات الثورة الفلسطينية المعاصرة، قد تطورت وتغيرت بفعل العمل الكفاحي الفلسطيني واضطرابات ميزان القوى بين الثورة الفلسطينية والعدو الإسرائيلي وتأثيرات هذا الميزان على بنية النضال الوطني وتأثره بالتداعيات المصاحبة لعملية التغيير في منطقتنا العربية التي تتأثر بدورها بالأبعاد الإقليمية والدولية، وهذا أمر طبيعي، فالتطور هو نتاج الحراك التلقائي أو المفتعل، إلاّ أن التغير هو نتاج لطبيعة هذا التطور، بحيث يكون سلبياً أو إيجابياً، بالقدر الذي تأخذ فيه عملية التغيير سلوكها بتأثير التطور.
إلاّ أن أحد أهم الشعارات التي رافقت الثورة الفلسطينية، بالكاد طرأ عليه أي تعديل أو تغيير، كما أنه لم يخضع للتمحيص والتدقيق، وأقصد هنا تحديداً، شعار «الكفاح المسلح باعتباره أرقى أشكال النضال» فقد رافق هذا الشعار العمل الفدائي الثوري الفلسطيني منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية، بل سبق ذلك الشعار الذي رفعته حركة القوميين العرب، ومارسته من خلال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حتى قبل الإعلان عن أول عملية عسكرية للثورة الفلسطينية، وبصرف النظر عن هذه المسألة، فإن هذا الشعار اكتسب قدرته على الاستمرار، من خلال عملية الصراع مع العدو الإسرائيلي، بالنظر إلى أن الدولة العبرية ـ كما يعتقد البعض قد تغلبت على سبعة جيوش عربية بفضل قدراتها التسليحية بالدرجة الأولى، الأمر الذي يجعل من ميزان القوى بين الطرفين المتصارعين ينطلق من العملية التسليحية العسكرية بالدرجة الأولى، يضاف إلى ذلك عامل «شكلي» فالسلاح هو رمز الثورة والثائر في الميدان، كما أن نتائج عملية الصراع المسلح تظهر مباشرة وبسرعة على خلاف الأشكال الأخرى.
مع مرور الوقت وتطور الصراع، حاول بعض القادة، ساسة وعسكرا، «تعديل» هذا الشعار، بحيث بات «الكفاح المسلح أحد أهم وسائل النضال، وان بالامكان اختيار كل وسيلة حسب الظرف السياسي والأمني» هذا المفهوم خفف من إطلاقية الشعار الأول الأساسي، لكنه أيضاً تجاوز ـ بنظري ـ أهم أشكال الكفاح الوطني على الإطلاق.
من الخطأ النظر إلى الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وفي الجوهر منه الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي باعتباره صراعاً مسلحاً بالدرجة الأولى، وإسرائيل لم توجد على أرض فلسطين بسبب قدراتها التسليحية وتواطؤ الغرب مع يهود العالم لأسباب مختلفة، وباعتقادي أن فوز الإسرائيليين بفلسطين جاء نتيجة عاملين أساسيين متكاملين: الوعي والمعرفة من ناحية، والقدرات التنظيمية من ناحية ثانية، وهذا يدفعنا للقول أن الصراع في جوهره هو صراع معرفي له علاقة مباشرة بالوعي والثقافة والإبداع والتنظيم، هذه العناصر هي التي تعتبر جوهر ميزان القوى، ومن يمتلكها يميل الميزان لصالحه، من يمتلك هذه العناصر، يمتلك القدرة على إرغام الجانب الآخر على الاستجابة لمخططاته وأهدافه دون إرادة فاعلة منه، من يمتلك هذه العناصر يمتلك قدرة الإملاء على الطرف الآخر، حتى لو لم يدرك الطرف المملى عليه ذلك.
يقول البعض إنه صراع حضاري، هو كذلك إذا ما استثنينا البعد التاريخي لمفهوم الصراع الحضاري، إذ ان المفهوم التقليدي لطبيعة هذا الصراع، يشدنا إلى الماضي دون تجاوزه إلى الحاضر والمستقبل، في هذه الحالة، إنه صراع حضاري معرفي ثقافي له علاقة مباشرة بالوعي ومقدار التقدم العلمي والصناعي والاجتماعي، والأهم، الديمقراطي المدني، وما يتمخض عن ذلك من مفاهيم الحرية بكل أبعادها الإنسانية دون استثناء.
يلتصق مفهوم «الكفاح المسلح كأرقى أشكال النضال» بالدكتور جورج حبش، مؤسس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حكيم الثورة لم يكن مجرد داع ثوري بقدر ما كان مفكراً ثورياً، لكن هذا الشعار، بالنسبة إلى تفكير جورج حبش، لم يكن بالصيغة التي يتم نقلها عنه، وبتجربة مباشرة وطويلة، فإن الحكيم كان عندما يتحدث عن «مقاتل» فإنه يقول «المقاتل الواعي» ورأينا كيف أن الجبهة الشعبية التي اعتمدت بطبيعة الحال شعار أرقى أشكال النضال ـ الكفاح المسلح، كانت ربما هي التي جعلت عملية التثقيف لدى أعضائها عاملاً أساسياً لا بد منه حتى في قبول ترشيحات العضوية، وبالتالي فإن هذا الشعار ارتبط بالوعي والمعرفة، رغم أن أدبيات الجبهة في سنواتها الأولى، تناولت شعار «كل سياسي مقاتل والعكس» فإنها عادت عن هذا الشعار، ما يشير إلى أن حامل البندقية وحامل القلم والكاميرا والطالب المجتهد، ورجل الأعمال الناجح، كل هؤلاء هم صناع الثورة وأدواتها.
إحدى الإحصائيات، كما عرفت مؤخراً، أشارت إلى أن أقل من 18 بالمئة هم المنضوون تحت العمل العسكري، فهل النسبة المتبقية تصبح هامشية أثناء العمل الثوري النضالي؟! هل حامل السلاح والمقاوم له دور أكبر من حامل الكاميرا والاقتصادي والمفكر والجامعي في أتون العمل الثوري، أم ان لكل منهم دوره المؤثر في تعديل ميزان القوى؟!
سيبقى هذا الشعار، في ظل مجريات الوضع الراهن وتقديس السلاح والمسلح، أيقونة الخطابات وسفرا من أسفار المواجهة التي لن تغير في ميزان القوى بالمعنى الحقيقي.
بقي أن نقول إن كل هذا لا يقلل بطبيعة الحال من الكفاح المسلح إذا كان أحد نتائج وتأثيرات البعد المعرفي الواعي الديمقراطي لطبيعة الصراع!!
Hanihabib272@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد