في مراحل معيّنة من التاريخ يتوارى اليقين ويتنحّى جانباً، تتقدم الحيرة ولا يُرى في الواجهة سوى مشهد الالتباس والارتباك.
يحدث هذا بالنسبة للبشرية كلها أحياناً، ويحدث في حياة الكثير من الشعوب والأمم.
حدث هذا في مراحل معينة ما قبل الحروب الكبيرة، وحدث، أيضاً، بعدها. في مثل هذه الحالات يتغير الوجه وتتغير الوجهة. 
عندما يتغيّر الوجه ـ المشهد والوقائع وأحياناً «الحقائق» ـ ولا تتغير الوجهة يتحول الإرباك والارتباك والالتباس إلى ضياع، وأما عندما تتغيّر الوجهة تتراجع الحيرة وتبدأ مرحلة النهوض والاستنهاض.
حدث هذا مع شعوب كثيرة، وأغلب الظن أن هذا ما يحدث مع شعبنا الآن.
نعم المشهد ملتبس، والكثيرون منّا فقدوا اليقين، ولم تعد أحلامنا هي الأحلام، وهناك منّا من استبدلها بالأوهام.
نحن فعلاً نحتاج إلى إعادة تعريف المشروع الوطني ـ كما كتب الزميل هاني المصري ـ ونحن فعلاً نواجه من الأخطار والتحديات ما يُهدّد مصيرنا الوطني، ويُراد لنا ويُخطط كي نتحول إلى «أيتام على مائدة اللئام»، أصبح ماثلاً أو هو خلف الباب.
لا يمكن لشعب يعيش ما نعيشه، ويعاني ما نعانيه من صعوبات وتصدعات داخلية وأزمات اقتصادية، وانهيارات في المحيط القومي وارتجاجات في المحيط الدولي وتحولات في الواقع الإسرائيلي إلاّ أن يستشعر الخطر ويتحفز للذود عن وجوده ومستقبله ومصيره.
ليست سهلة ولا متيسرة مهمة كهذه من دون عمل جاد ودؤوب ومثابر ومخلص.
وهي ليست مضمونة، ولن تكون حقيقية ولا فاعلة إلاّ إذا كانت النخب مؤهلة وقادرة وراغبة ولها مصلحة صميمية في إنجاز هذه المهمة.
أقصد أن القوى الفاعلة والحيّة في المجتمع هي المؤهلة لمهمة كهذه والمسألة ليست مجرّد البحث عن التوافق المشاعري على طبيعة الصعوبات والأخطار والتحديات.
إن مفتاح التصدي الناجح هو تحويل مهمة المراجعة إلى مهمة مجتمعية شاملة، لأن الخطر ليس مجرد تهديد سياسي للنخب السياسية، وليس مجرد استعصاء سياسي، وإنما هو خطر «وجودي» من زاوية الهوية والكيان والحقوق والأهداف.
ليست المسألة إذاً هي مجرد حالة ارتقاء في الوعي والمسؤولية عند الفصائل والمنظمات السياسية، ولن تحلّ بالمناشدة والاستعطاف، ولن نتمكن من استنهاض الوضع الفلسطيني عبر التحذير من حجم التحديات والتنبيه إلى مستوى المخاطر، وإنما عبر وضع آليات عمل سياسي ومجتمعي قادرة على وضع هذه المهمة على جدول الأعمال.
عندما كانت تمر بشعوب كثيرة الصعوبات والأخطار كالأخطار والصعوبات التي نمر بها، كانت مجتمعات هذه الشعوب تعرف كيف تستنهض القوة الكامنة فيها، وإعادة تحشيدها في المشروع الاستنهاضي «الجديد»، وكانت تستجيب للتحديات بسلاح الوحدة الشعبية للمواجهة.
مع وجود حالة الانقسام، ومع وجود من يبحث عن «دور» ما في طيات الأخطار نفسها للمحافظة على «سلطة» مضحكة في قطاع غزة أو في الضفة وبقاياها، ومع وجود منظمة تتحول (منظمة التحرير) أكثر فأكثر إلى كيان ملحق بدل أن يلحق الكل الوطني به، ويكون كل شيء مؤسساتي ليس إلاّ فرعاً من فروع هذا الكيان، وذراعاً من أذرعه، فإن مهمة الاستنهاض ليست ولن تكون إلاّ محاولة لن تنجح على الأغلب، ولن تقوى على إنجاز المهمة.
أليس سؤالاً مشروعاً ذلك الذي نسمعه كل يوم على ألسنة الناس، والذي مفاده: كيف لأطرٍ ممزقة وهشّة أن تعيد استنهاض الحالة الوطنية، وأن تتمكن من إخراج القضية الوطنية من المأزق الذي تعيشه هذه القضية في هذه المرحلة؟!
يوجد حل واحد ووحيد هو وحده القادر على التصدي للأخطار، ويستحيل من دونه الحديث عن تصد جاد لهذه الأخطار.
هذا «السلاح» السحري هو المنظمة.
لماذا المنظمة بالذات، ولماذا المنظمة قبل كل مسألة ومشكلة، ولماذا المنظمة هي مفتاح الحل والمدخل الإجباري لهذا الحل؟
الجواب يكاد يكون في منتهى البساطة للأسباب التالية:
أولاً: المنظمة والمنظمة وحدها هي التي تجسّد الحقوق الوطنية والأهداف الوطنية التي تتهددها الأخطار الدائمة والداهمة، وهي وحدها التي تجمع هذه الحقوق في بوتقة واحدة وموحدة. 
ثانياً: المنظمة والمنظمة وحدها هي التي تمثل الهوية والكيانية الوطنية، وكل ما عداها إما جزء منها أو مكمل لها أو خارج عنها ومتمرد عليها ويسعى للنيل منها.
ثالثاً: المنظمة والمنظمة وحدها هي صاحبة الولاية السياسية المعترف بها وطنياً وعربياً ودولياً، وهي وحدها صاحبة القول الفصل في الشأن الوطني العام، وهي وحدها من تتمكن من الدفاع عن الحقوق والأهداف الوطنية في كل مؤسسات العالم بما فيها مؤسسات القانون الدولي.
وكل محاولة للتنطُّح أو الالتفاف أو التحايل على دور المنظمة هنا ليس إلاّ جزءاً حقيقياً من الأخطار التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.
رابعاً: المنظمة هي إعجاز الشعب الفلسطيني، والذي استطاع بفعل نضالات هذا الشعب ومن ظروف مستحيلة أن يحول هذا الشعب من مجموعة لاجئين وأن ينقله من مرحلة الضياع والتيه السياسي إلى شعب مكافح يحمل قضيته بكل شرف وإباء إلى كل مكان في هذا العالم، وأن يحوّل القضية الوطنية من قضية إنسانية (لا ناس بؤساء ومغلوباً على أمرهم ومشتتين بلا وطن ولا هوية ولا كيان) إلى قضية تحرر وطني، وإلى حقيقة سياسية، وإلى رمز للحرية والعدالة والحق والمشروعية الإنسانية.
لهذا كله الحل يبدأ من هنا، ومنه المنطلق نحو الصمود والقوة والمَنَعَة الوطنية لإجهاض الأخطار، وتصفية المؤامرات، والإجهاز عليها على طريق النصر والاستقلال.
إذا تحولت المنظمة إلى الكيان الوطني الواحد والموحّد فلا خوف على الحقوق وعلى الأهداف، لا خوف من البدائل وأشباه الكيانات، ولن تستطيع الميليشيات أن تجد طريقاً للتربُّع في الصفوف الأمانية للشعب ولا حتى أن تجد لها مكاناً في نظامه السياسي.
لنتصور للحظة أن المنظمة عادت لتكون قوية وموحّدة، ولها مؤسسات فاعلة وديمقراطية، وتقود فعلياً النظام السياسي والسلطة الوطنية، فمن سيتمكن في هذا العالم أن يتطاول على حقوق شعبنا أو يختطف جزءاً من هذا الوطن، أو رهنه لأية أجندات هنا وهناك؟ ومن سيمتلك الجرأة على اختراع هويّات جديدة أو يتلاعب بالهوية الوطنية الجامعة؟
ألن يتحول البقاء خارج إطار المنظمة وما تمثله من إجماع وطني ووحدة شعبية إلى «مسخرة» سياسية، وعيب اجتماعي وثقافي، بل وإلى خيانة وطنية مكشوفة ومعلنة؟
مهم جداً وإلى أبعد حدود الأهمية أن نتحاور، وأن نوفّر أعلى وأرقى مستوى ممكن لهذا الحوار، وأن نحرص على مشاركة فاعلة من كل المؤسسات والمستويات، لكن الأهم أن نعرف أولاً، من أين نبدأ لنعرف كيف نبدأ ولماذا نبدأ من هنا بالذات.
لهذا كله فإن المنظمة أيها السادة هي: العبد والمعبود والمعبد... محمود درويش.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد