من البديهي أن تكون حكومات إسرائيل المتعاقبة معنية باستمرار حالة التشرذم والانقسام التي يعيشها الفلسطينيون وخاصة فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية حتى تتذرع إسرائيل بالوضع الذي نشأ في غزة لتبرير عدم الانسحاب من الضفة الغربية بادعاء أنه لا ضمانة لعدم تحول الواقع هناك إلى شبيه بالواقع في غزة وهو ما يؤثر على أمن إسرائيل حسب نفس الادعاءات التي تسوقها المؤسسة الحاكمة في إسرائيل، ومن البديهي أيضاً أنه لا يوجد أي مبرر أخلاقي ولا سياسي ولا أمني لبقاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية التي احتلت العام 1967، ومنع الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره بصورة منافية لقرارات الشرعية الدولية ولمواقف الإجماع الأممي على رفض بقاء الاحتلال.
ولكن هل الوضع الفلسطيني الداخلي يساهم في دفع فكرة الدولة المستقلة ويحمس دول العالم وخاصة الدول العظمى للتسريع في قيام هذه الدولة وحل الصراع من جذوره؟
الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة بتاتاً على الرغم من البديهيات التي سقناها آنفاً، لأن القوى المتحكمة بالعالم اليوم لا تفكر مثلنا ولا تندفع لاتخاذ مواقف بناء على اعتبارات العدل والمساواة وحقوق الإنسان فهذه تصلح للشعارات وللذرائع التي تبرر استخدام القوة في أماكن مختلفة من العالم غالباً لدى الشعوب الفقيرة والمغلوبة على أمرها.
ولكن لكي نحاول فهم العقلية المتحكمة في الكون دعونا نعود قليلاً إلى الوراء لنرى هل قمنا بما يتوجب علينا لتأمين قيام دولة فلسطين وحث المجتمع الدولي للتدخل الفاعل من أجل تحقيق هذا الهدف.
فكرة الدولة المستقلة برزت في البرنامج المرحلي الذي تم تبنيه في العام 1974 والذي جرى تطويره في 1979 من سلطة وطنية إلى دولة سيادية، ولكن اكتسب الزخم والتأييد الدوليين بعد الانتفاضة الشعبية الكبرى في العام 1987 وبعد تبني وثيقة الاستقلال وبرنامج السلام الفلسطيني في الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني والتي تبنت قرارات مجلس الأمن 242 و338 وفكرة حل الدولتين.
وهذا التطور قاد إلى مؤتمر مدريد ولاحقاً إلى اتفاق "أوسلو" والمرحلة الانتقالية التي بدأت في العام 1994 والتي كان يجب أن تنتهي في العام 1999.
وبرغم أن "أوسلو" مليء بالثغرات وبعضها جدي وجوهري كعدم اعتراف إسرائيل بحقنا في تقرير المصير وإقامة دولتنا المستقلة على أرضنا مقابل الاعتراف بوجودها، إلا أن القيادة الفلسطينية في ذلك الوقت اعتقدت أن هذه مرحلة مؤقتة لا بد أن تقود إلى دولة في نهاية المطاف في إطار تغيير العقلية الإسرائيلية ودفع المجتمع الدولي للانخراط في العملية التي رعاها منذ بدايتها.
وهذا التفكير يحمل الكثير من الصحة ولكن السلوك والأداء الفلسطينيين ما كانا منسجمين تماماً مع الفكرة والهدف، هذا عدا حصول تطورات جذرية في إسرائيل حرفت المسار إلى اتجاه آخر غير الذي كانت ملامحه حتى لو ضبابية مرسومة في الاتفاق بعد قتل اسحق رابين.
نحن لم نستغل ما وفره لنا الاتفاق في بناء سلطة وطنية على أسس صحيحة وسليمة لتكون نواة لدولة مؤسسات حقيقية، وبالرغم من عمليات النقد المتكررة لأداء السلطة ولعدم وجود بناء المؤسسة بطريقة ديمقراطية تؤسس للمطلوب.
عدا ذلك وقعنا في خطأ المزاوجة بين السلطة والكفاح المسلح وخاصة في الانتفاضة الثانية التي بدأت منذ مراحلها الأولى باستخدام السلاح الأمر الذي مكن إسرائيل من تدمير كل ما تم بناؤه من مقومات للدولة والاستقلال برغم كل الثغرات.
وهذا سوء تقدير للواقع بعد قيام السلطة ولما هو مسموح وممنوع دولياً في هذه المرحلة.
وأخطر الأخطاء كان على الإطلاق عندما قامت إسرائيل باخلاء قطاع غزة من جانب واحد ونحن لم نحسن الاستفادة من ذلك بل حولناه إلى كارثة على المشروع الوطني عندما استمرت الفوضى المسلحة في القطاع وسمح للفصائل تحت حجج وذرائع مختلفة بالاحتفاظ بسلاحها في إطار ازدواجية السلطة الأمر الذي قاد إلى الانقلاب على السلطة وحصول أكبر جريمة حصلت ضد المشروع الوطني منذ الاحتلال الإسرائيلي في العام 1967.
فالانقسام الذي ترتب على الانقلاب لا يزال يمثل أكبر ضربة لحقت بمشروع الدولة المستقلة في الضفة وقطاع غزة.
وكان ينبغي على القيادة أن تدرك المخاطر المحيطة باستمرار حمل السلاح والفوضى ووجود سلاح مواز لسلاح السلطة الشرعي.
وهذا كان يجب أن يدفع لاتخاذ قرار حازم وقاطع لا يقبل التأويل بنزع سلاح الفصائل والبقاء في إطار الشرعية.
والعمل على بناء قطاع غزة كنموذج يحتذى على كل المستويات لنثبت للعالم أن المشكلة في الاحتلال وعندما يرحل نستطيع بناء دولتنا وحكم انفسنا بطريقة حضارية تليق بالشعب الفلسطيني العريق. ولكننا للأسف نفذنا ما أرادته إسرائيل لنا بأياد فلسطينية في إطار صراع على السلطة ومغانمها.
ومن الصعب تصور أن يحزم العالم أمره ويفرض حلاً تقوم في إطاره دولة فلسطينية مستقلة طالما نحن غير قادرين على التوحد وإعادة قطاع غزة إلى السلطة الموحدة، وطالما أداء سلطتنا حتى في الضفة يتراجع على مستوى الاهتمام بالمواطن وتعزيز الديمقراطية الحقيقية والنهوض بالاقتصاد والتنمية في إطار ما تسمح به الظروف، وستظل الشكوك قائمة في قدرتنا على إدارة دولة لم ننجح في جمع شقيها.
ربما لا يصارحنا العديد من الدول برؤيتها لواقعنا القائم ولكن دون شك هناك أسئلة كثيرة تثار وأمور تقلل ال حماس لدى أطراف عديدة، وعلينا أن ندرك أننا إذا لم نساعد أنفسنا فلن يكون بمقدور أحد حتى لو رغب في مساعدتنا.
ونحن دخلنا عملية طويلة تعتمد على تأييد المجتمع الدولي لنا وعلينا تقع مسؤولية تسريع أو تبطئة العملية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية