يسعى الإنسان بطبعه للعيش بحرّية وتحقيق أحلامه، لكنه يصطدم بالكثير من العقبات في طريقه، وتتفاوت طموحاته وعثرات حياته بحسب موقعه الجيوسياسي، كما تختلف ردة فعله وفقاً لثقافته وأسلوب تفكيره، فلا ينشد الحرية إلا عاقل واعِ طامح وثائر، وكذلك الصحفي، العالِمُ بأهمية مهنته، السّاعي لنشر المعرفة وإظهار الحقائق وكشف الفساد وإعمال القانون، بالإضافة إلى الإخبار والإعلام والتسلية والترفيه.

ورغم إدراك مكونات المجتمع لأهمية وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية والإليكترونية، وأهمية وظائفها وجدوى وجودها، وضرورة توفير مقومات العمل الصحفي وحماية الحريات الإعلامية، إلا أن المعاناة مستمرة. والحقيقة أنّ مساعي الفساد وبطش الحاكم ونفوذ أصحاب المصالح تتعارض مع صون الحريات الإعلامية، وستبقى معركة الخير والشر قائمة على وجه البسيطة، على اعتبار أنّ الصحافة من هيئات الخير غالباً. كما سيستمر الاشتباك الفكري حول أنّ الأصل أنّ التشريعات تحمي الحريات الإعلامية أم تقيّدها، ورغم أنّي أنحاز للوسطية بين الأمرين، فالإعلام بحاجة للتشريعات ولكن بالقدر المعقول، لترسيخ مبادئ الإلتزام والاحترام والحماية، وتصليب مرتكزات الصحفيين والعاملين في حقل الإعلام وسندِهم.

وتنبع فلسفة حماية الحريات الإعلامية من المادة رقم (19) التي أقرّها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ثم جاء عليها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بالتفصيل والرسمية، وكفالة الحق في حرية الرأي والتعبير والحق في الوصول للمعلومات ونشرها والحق في انشاء وتملّك وسائل الإعلام، وهي الحريات الصحفية المطلوبة للعمل الصحفي. كذلك كفالة المادة (6) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للحق في العمل، وكفالة المادة (21) من عهد الحقوق المدنية والسياسية للحق في التجمع السلمي، اللتان تضمنان للصحفيّين والإعلاميّين بيئة عمل ملائمة وديمقراطية. وفي مناطق النزاع المسلح- كالأراضي الفلسطينية- يعزّز القانون الدولي الإنساني حماية الصحفيين في المادة (79) من البروتوكول الإضافي الملحق باتفاقيات جنيف الأربعة والذي أكده بشكل حاسم قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1738، بالإضافة إلى حماية المنشآت الصحفية والمعدات الإعلامية الوارد في الفقرة الثانية من المادة (52) من البروتوكول نفسه. 

وفي فلسطين تضمّنت التشريعات المحلّية الحماية للصحفيين والعاملين في حقل الإعلام، من خلال المادة (19) من القانون الأساسي الفلسطيني المعدّل، وتناولها بالتفصيل قانون المطبوعات والنشر لسنة 1995 رغم عديد الملاحظات عليه. وإن كان قانوني العقوبات العاملين في غزة والضفة قد تضمّنا ما يمسّ بالصحفيين بفرض عقوبة الحبس عليهم على خلفية عملهم الصحفي.

وتبقى الحماية الواردة في المواثيق الدولية والتشريعات الفلسطينية بحاجة للتفعيل، والسؤال الأبرز هنا: كيف؟

يبدأ تفعيل الحريات الصحفية والاستفادة من الحماية القانونية لها من الصحفي نفسه، عليه أن يعلم حقوقه كافّة لكي يعرف كيف يدافع عنها، ومن ثمّ عليه نشرها وتعريف المجتمع بها حتى يحميها كما يطلب من الصحافة القيام بواجباتها وتحقيق وظائفها لفرض احترام الجميع للصحفيية ووسائل الإعلام. كذلك العمل على إيجاد جسم نقابي قوي وموحد يدافع عنه وعن حرياته ويصدع بها في وجه كل جائر، وضبط الأداء الإعلامي بما ينسجم مع القوانين والتقاليد والآداب العامة ويصبّ في مصلحة الصحفيين والوطن. ومن ثمّ ينتقل الدور للجهات العامّة رسمية وأهلية لترسيخ تلك الحريات والاستفادة القصوى منها بجعل الصحافة سلطة رابعة.

هو الكلام وما أسهله.. هذا ما سيدور في رأس كل صحفي أو قارئ، لكون التطبيق الفعلي في ظل المشكلات التي تعانيها فلسطين من احتلال وانقسام وغير ذلك، صعب جداً! ولكنّ الحقيقة أن الحرّية حاجةٌ وطموح، لو سعى إليها الصحفي لحصل عليها ولو بثمن قد يكلفه غالياً، فما أخطأ من سماها مهنة المتاعب. 

في اليوم العالمي لحرية الصحافة طوبى لكل صحفي عمل واجتهد وخدم مجتمعه وطوّر من نفسه، تحية لعيون وألسنة وأقلام الحقيقة في كل ميدان، وستبقى الحريات هدفاً منشوداً وطموحاً مشروعاً إلى أن نعيشها واقعاً ملموساً، استمروا ولا تلتفتوا للمثبطين والمستفيدين، وإلى الأمام.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد