لم يبقى لدينا جسراً نعبر من خلاله الي الوطن الا من خلال ري البذرة الثقافية التي زرعتها في نفوسنا، فلم يَعد لدينا ما نبكي عليه سوى الوطن السليب الذي يُقطع الأوصال يوماً بعد الأخر، ألا زلت تكتب الروايات والمقالات، وتشتاق لتلك الزنانة التي تعودت أن تأكل برفقتها، ألا زلت تذكر يافا عروس البحر، ألا زلت تذكر زُقاق ذلك المخيم المجيد في صورة وشعاراته ومخطوطاته على جدران أنهكها الفقر والحرمان، ألا تذكر "الترنس" هو يشتاق لك، وسوق اليرموك، وجلسه الجندي المجهول، أتشتاق لفنجان قهوتك الصباحي على مفترق الشارع، إلي جلسة المثقفين والكُتاب والادباء، لقد سُلبت الثقافة من شوارع مدينة الظلام.

يا صديقي: إن كُنت تسمعني فأنا أطرق جدران خزان الذاكرة، لعلها تُعيد لنا صوتك الشاحب، وكحتك المعهودة، لقد اشتاقت لك الديار، أتحسب أنك تعيش في غمرة الصمت وسط مدينة الأغراب، وسط عنصرية التفكير الحديث المبنى على المجهول وبحضور الغائبين، نحن هنا لا زلنا نتنفس الهواء الرطب، نحن ملح الأرض الذي لا يذوب، نحن الصخر الذي لا يلين، لن تهزمنا قطرات المطر الصيفية،نحن في عصر كي الذكرة، فماذا أنت فاعل الان؟

أيها المثقف: إن حدائق الفراولة الحمراء لا زالت تُزين الأرض، وتمتد من الشمال حتى الجنوب، إن قِلاع المثقفين تندثر وتتلوث بالخطاب السياسي الممزوج بماء الكذب، ونعيش الخطاب التنويري الذي يُدمر الوطن ويُمجد الحزب، لقد اختلفت علينا البلاد، وأصبحنا غُرباء، غابت المشاهد الثقافية، ورائحة القهوة، وأصبحت السجائر بلا طعم، بعدما غزت السجائر الالكترونية البلاد، لقد تغيرت العادات والتقاليد وأصبحت الكرامة موقف، والصداقة مصلحة، والوطن دجاجة تبيض ذهباً، وباع مُثقفي الوطن رؤوس أقلامهم لساسة البلاد، وبات المشهد الكلاسيكي تراجيدي، وغابت شمس الحق وبزغ فجر الباطل، ونامت المدينة بسكانها على ضوضاء مُطلقي الشعارات ومروجي الأكاذيب.

خذلتني العبارات واللغة العربية في تركيب مفردات جديدة، فاستعنت بصديق مثقف لإتمام كتابة هذا المقال، وعندما قرأ العنوان، أجاب لقد خذلتنا الأيام وأصبحنا عبيداً لأفكار التطرف السياسي، والتنوع الاستبدادي بين شقي الوطن، إن الثقافة التي تبحث عنها لا تُطعم خبزاً ولا تسد رمق جائع،

صديقي: ألا زلت مثقفاً؟ أتريد أن أذكرك بما يقول محمود درويش: " أنا من هناك ولي ذكريات" احفظ جميل ذكرياتك بين مثقفيك وقُرائك ومتابعيك وأحبابك، عُد إلى هنا حيث الشوارع تشتاق لك وكذلك أبوشفيق، الذي تنكز عربته وسط شوارع المدينة، تظفر بابتسامة جميلة من صبية يافعة يوماً ما قرأت لك رواية الفتيان، أو الحجة كرستينا.

لا زالت الحياة مُعلقة يا صديقي في غزة ، " “ثمة أشياء تستطيع دائماً أن تسحبنا بعيداً في الماضي وترحل بنا ، دون أن ندرك أنها بهذا تؤكد لنا أنها لم تعد إلا من الماضي"، كما حل مُثقفيها، ويبدو أن التعليق قد زاد من حده هذه المرة، عندما توجه أحد الكتاب لبيع القهوة على الطرقات من أجل تأمين لقمة عيش لأبنائه، فقد وجد الثقافة لا تطعم الخبز، وأشعلالنار بالكتب والروايات كي تُغلى القهوة لتصبح بنكهة ثقافية بحته، يتذوق المارة طعم المرار في تلك القهوة، التي سُكبت في نهر الثقافة الفلسطينية الحديثة، ثقافة الانقسام، وثقافة الاحتلال، وثقافة الحصار، وثقافة المؤامرة، وثقافة التخاذل، وثقافة السياسة، وثقافة في بلاد لا تحترم أدنى ثقافة، إلا ثقافة القتل والبارود.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد