قبل عدة سنوات شاركتُ في زيارة دراسية في كوريا حول تطور الاقتصاد الكوري مع مجموعة رائعة من موظفي (ماس)، معهد السياسات الاقتصادية الفلسطيني.
في يوم اختتام الدورة سألنا أحد عمداء أعرق الجامعات الكورية (أستاذ كرسي) عن رأيه في سر أو مفتاح فهم النهضة الكورية الحديثة فأجاب:
التعليم، التعليم، التعليم. الجيل الذي تربّى في الحضانة على مناهج التعليم الجديد، هو الذي يقود كوريا اليوم.
تذكرتُ هذا الكلام العميق وأنا أتسلّم نسخةً من كتاب الصديق مع زملاء آخرين مهند عبد الحميد [المناهج المدرسية بين استثمار الرأسمال البشري وهدره].
يسدّ كتاب عبد الحميد ثغرة كبيرة في المكتبة الفلسطينية المختصة، ليس لجهة أن موضوع البحث ليس مطروقا وإنما لجهة الإحاطة الشاملة بمسألة وموضوع البحث، إضافة إلى الجرأة والموضوعية في تناول قضية جاثمة على صدر المجتمع منذ عقود طويلة حتى كاد هذا المجتمع أن يصاب بضيق النفس والنقص الحاد في تروية الأكسجين للعقل الفلسطيني.
ليس في وصف هذه الحال أيّ مبالغة، والمجاز هنا لا يكاد يفي بغرض التشخيص الدقيق للحالة.
يقع الكتاب في عشرة فصول وخلاصة، إضافة إلى مقدمتين مهمتين للناشر والكاتب.
ليس في نيّتي تناول الكتاب فصلاً فصلاً (مع أن الأمر يستحق في مناسبة أخرى) ولكنني سأحاول أن أستدلّ من الفصول على أهمية موضوعات البحث.
1ـ موضوع غياب أو تغييب الحقائق في السياقات التاريخية. يلاحظ، كما يؤكد عبد الحميد، أن الكثير من الأحداث التاريخية والسياسية منها تحديداً تتجاهل الجوانب المختلفة لتلك الأحداث وهي تعمد إلى تبني رواية واحدة، ولا يمكن للتلميذ أن يعرف أو يتعرف إلى حقيقة تلك الأحداث استناداً إلى ما جاء في المناهج المدرسية.
تنطبق هذه المسألة على الموقف من الحكم العثماني، وعلى الموقف من المماليك، وعلى القسوة بل والاستئصال الذي مارسه صلاح الدين الأيوبي للدولة الفاطمية، والموقف من العلماء المسلمين الذين تجري الإشادة بعلمهم وإسهاماتهم، التي وصلت إلى كل الدنيا، دون أدنى إشارة إلى المصير الذي انتهى إليه عدد كبير منهم بالموت والحرق وإحراق المؤلفات.
2ـ وعلى الرغم من إشارة المناهج إلى أهمية إعمال العقل في مقدمات الكتب المدرسية، وإلى أهمية التفكير المستنير إلاّ أن (النقد) هو الغائب المشترك الأعظم عن تلك المناهج، ناهيكم عن الصمت الكامل حول غلق باب الاجتهاد. هنا يبرز سؤال العلاقة بين حرية التفكير وإعمال العقل وبين النقد. وأين حرية إعمال العقل في غياب النقد؟
3ـ مسألة المرجعية الدينية والحاكمية
يرى الباحث أن ثمة تناقضا صارخا ما بين القيم التي قامت عليها منظمة التحرير الفلسطينية، وبين ما هو وارد في مناهج التعليم المدرسية حول التشريع والحاكمية.
ففي الوقت الذي أكدت وثيقة الاستقلال، ومن قبلها الميثاق الوطني، وحتى الميثاق القومي الأول، مدنية الدولة وديمقراطيتها وعلمانيتها يلاحظ، بكل وضوح أن هذه المسألة بالذات ملتبسة تماماً في مناهج التعليم، وهناك انحياز واضح من قبل هذه المناهج لمفاهيم هي أقرب إلى الفكر الديني السلفي، بل وأقرب إلى فكر الإخوان بصورة محددة وملموسة.
ومفاد ما جاء في المناهج حول (الحاكمية لله وحده) وأن الإنسان أعجز من أن يحكم نفسه وأن هذه الخاصية هي لله وحده.
أما القرآن الكريم في هذه المناهج فهو دستور الحياة والبشرية، ثم إن فلسطين أرض وقفية، بل والتأكيد على عقيدة "الولاء والبراء" والدعوة الصريحة إلى إقامة "الحكم الإسلامي الرشيد"، وتجاهل الآخر الديني ووضعه في دائرة الشبهة الدينية وأحياناً في دائرة المزيف والكافر.
4ـ التناقض الصارخ أحياناً، والمستتر في أحايين أخرى، بين العلم والدين وتغليب المفهوم الديني وإقحامه في مسائل العلم.
معروف أنه منذ بدايات النهضة الأوروبية وإلى يومنا هذا مرت البشرية في مراحل مختلفة حول هذه العلاقة بالذات اتسمت بإخضاع العلم كاملاً (أو الجزء الذي لم يتم إقصاؤه وتدميره) للدين ثم "التعايش" لفترة انتقالية عَبر نظرية التوافق بينهما ثم الفصل التام بينهما بحيث يلجأ الدين إلى منهاجه الإيماني (المسلّماتي) الخاص في حين يعتمد العلم على مناهج حسّية وتجريبية وفق قوانين خاصة بالبحث العلمي.
قلّما نجد اليوم من يحاول محاججة قضايا العلم بالمفاهيم الدينية في حين ما زالت مناهج التعليم المدرسي عندنا تحاول جاهدة على هذا الصعيد.
يورد الكاتب مهند عبد الحميد الأمثلة الحسّية الكافية على هذه المحاولات العقيمة و"اللامنهجية"، أي بمعنى منافية للمنهج العلمي المعتمد من البشرية.
ويورد الباحث ما يكفي من القرائن والأدلة على إحجام المناهج المدرسية عن الانفتاح الحقيقي على الحداثة بما تمثله من إنجاز بشري ورقيّ حضاري وتنوُّر وتقدم اجتماعي، وينتقد بشدة محاولات الخلط بين القيم التي أنتجتها الحضارة الغربية وبين ممارسات الغرب الاستعمارية.
5ـ يفرد الكاتب فصلاً مطولاً عن قضية المرأة والمساواة ويرى أن المناهج المدرسية تتغاضى عما تجاوزه الزمن والمواقع من قضايا تخص الموقف من المرأة بما في ذلك قضايا الميراث والطلاق و"قوامة" الرجل وغيرها من كلاسيكيات الفكر الإخواني حول المرأة، كما يوضح عبد الحميد الخلط المركز بين الأعراف والتقاليد من جهة وبين المواقف الدينية الشرعية مثل قضايا لباس النساء وخصوصاً الحجاب.
في هذا الإطار يفنّد عبد الحميد اعتبار الحجاب شأناً من شؤون الإيمان ويرى أنه يتم تجاهل كامل لآراء الكثيرين من العلماء المسلمين حول المرأة ولباسها وموقفها، وخاصة ابن رُشد ومحمد عبده وجمال البنا ومحمد شحرور وغيرهم.. وغيرهم. كما يوجه عبد الحميد نقداً منهجياً متماسكاً حول قضايا الجهاد وقضايا "التحررية" والسند الأممي والمواقف الحقيقية من موقع فلسطين في الاتفاقيات الدولية حول قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية وقضايا التمييز.
ولا ينسى عبد الحميد الإشارة المركزة حول دور المعلم وتأهيله وإنصافه من الناحية الاقتصادية والاجتماعية. 
ويلاحظ الباحث عن حق أن بناء الهوية الفلسطينية الجامعة يحتاج إلى تجاوز الكثير من الثغرات القاتلة في منهج التربية الوطنية والوحدة الوطنية وتماسك وتعاضد المكوّنات الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني.
كتاب مهند عبد الحميد صرخة لكي نستيقظ من نوم نظنه على الحرير لأن بعضنا لديه نوايا حسنة حول ما تقدمه المناهج المدرسية من تطوير مجتمعي في حين أن الواقع يقول بكل بساطة إن مناهجنا وإن تضمنت تقدماً على ما كان عليه الأمر في العقود السابقة إلاّ أنها ما زالت أسيرة الفكر السلفي الإخواني وهي ما زالت بعيدة كل البعد لكي تتحول إلى محور الاستثمار الحقيقي في الإنسان (التلميذ) الفلسطيني، وما زلنا نقف على المدخل الخارجي لهذا الصرح الذي سيقلب كل الموازين عندما يقلب منظومة التعليم عندنا من منظومة تنازع البقاء إلى منظومة خلاّقة ومبدعة في كل أساس وفي كل بناء.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد