الصحيح أن الذي فجّر غضب الشارع الجزائري، وأدّى إلى خروجه للشوارع بأعداد كانت تزداد كل يوم، وأحياناً كل ساعة هو النية عن الولاية الخامسة، ثم الإعلان الرسمي عن هذه الولاية.
غالبية كبيرة من شابّات وشبّان الجزائر اعتبروا أن موضوع الولاية الخامسة يحمل في طيّاته إهانة كبيرة للشعب الجزائري، كما أنه يعكس قدراً هائلاً من الاستهتار بكل أمانيه وطموحاته. حاول النظام السياسي الذي ما زال قائماً حتى يومنا هذا حتى وإن فقد كلياً ركيزته الشعبية كما فقد جزئياً ركيزته العسكرية والأمنية أن يلتف على الحركة الشعبية وما زال يحاول.
لكن الصحيح أيضاً هو أن الهبة الشعبية التي غطت المساحة الأوسع من الجزائر ما كانت لتكون بهذه الكثافة والامتداد لولا عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية غاية في الأهمية والحساسية.
أكلت الثورة الجزائرية نفسها في العقود الثلاثة الأخيرة، وأُدميت البلاد بحرب داخلية شرسة كان من اسباب نشوبها الرئيسية فساد الطبقة السياسية الحاكمة، ولجوء الشاذلي بن جديد والاحتماء بـ «الإسلام السياسي» في مواجهة المد الشعبي الديمقراطي، وكانت النتيجة ـ كما كانت في بلدان عربية أخرى ـ إطلاق العنان لهذه الجماعات للتمكن من تلابيب المجتمع الجزائري تحضيراً للانقضاض على ما كان قد تبقّى من مكتسبات الثورة الجزائرية.
أدت التدخلات الخارجية وسياسات الاستدانة إلى إفقار الشعب الجزائري وتهويل طاقاته البشرية الهائلة إلى طوابير العاطلين عن العمل، وكان الجيش الجزائري هو الحاكم الفعلي للبلاد حتى بعد عودة بوتفليقة، وإنجاز مشروع المصالحة الوطنية التي أوقفت الحرب وأوقفت مسار التنمية المطلوبة أيضاً.
اعتقدت الطبقة السياسية الحاكمة أن الإرث الكفاحي لجبهة التحرير الوطني سيكون وسيظل درعاً تحتمي به هذه الطبقة في مواجهة المد الشعبي، وتصاعد المطالب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للشعب الجزائري، وظلت تكابر رغم أن التآكل في مقدرات البلاد، كان بادياً للعيان، وكان معروفاً بأيّ اتجاه تسير هذه البلاد.
في مواجهة الأزمات الوطنية السياسية والاجتماعية وحتى الأمنية تبلور في الجزائر حلف صلد بين بيروقراطية الدولة والرأسمال الطفيلي الجديد، ومجموعات معينة من المؤسسة العسكرية، ما أدى إلى تهميش الدور السياسي لجبهة التحرير الوطني وشرذمتها، وتراجع دورها، وكان هذا العنوان بالذات هو التعبير الأعمق عما وصلت اليه الأمور في الجزائر، والذي كان يُنذر بأنها تنتظر فقط لحظة الانفجار القادمة.
لهذا فإن موضوع الولاية الخامسة كان مجرد «القشّة التي قصمت ظهر البعير».
كان هذا التقديم المكثّف ضرورياً للمساعدة في رؤية الهبّة الشعبية في الجزائر واحتمالات نجاحها وعوائق تقدمها.
وإذا ما عدنا إلى نفس المنهج وإلى القضايا المفتاحية لفهم التطورات في السودان والجزائر فإن علينا أن نرى موقف الجيش وموقف الحركة الشعبية نفسها، ومدى وعيها ونضجها، وكذلك دور التدخلات الخارجية القائمة والمحتملة في الجزائر.
أولاً: موقف الجيش وقوى الأمن
الوصف الحقيقي لموقف الجيش الجزائري من الهبّة الجماهيرية هو مسايرتها وتأييد ما لم يعد ممكناً إلاّ تأييدها، دون تبني أي من مطالبها الرئيسية أو الجوهرية.
يعلن الجيش في كل يوم وفي كل ساعة أنه «الضامن» للتغيير، وأنه الحامي والراعي للحفاظ على مؤسسات الدولة، وأنه «يستند» إلى تحالف قوي وأصيل بين الشعب والجيش.
القراءة الموضوعية المنصفة لهذا الموقف تعني أن المؤسسة العسكرية في الجزائر ليست مع تغيير جذري في الحكم، وأنها (المؤسسة العسكرية) مع إصلاح النظام وترقيع وترميم مؤسسات الحكم بما يكفل تغيير مسار الحكم وليس تغييره.
ويراهن الجيش الجزائري على عدم انسجام وتماسك قوى الهبّة، وعلى اختلافات جوهرية قائمة بالفعل بين قوى تقليدية وقوى جذرية داخلها، كما يراهن على حلول وسط ستأتي بها هذه الاختلافات عند درجة معينة من تطور الأحداث.
وحقيقة الأمر هنا هو أن الجيش الجزائري لديه الخبرة الكافية للمراهنة على هذا الحل.
أما الحركة الشعبية في هبّة الجزائر فهي أقل تماسكاً من الناحية الجوهرية من شقيقتها في السودان، وهي أقل تنظيماً وخبرة من مؤسسات فاعلة في الحالة السودانية كاتحاد المهنيين، والأهم مؤسسة الحكم الجزائري بأضلاعه المكونة الثلاثة أكثر صلابة من حالة حكم البشير.
لكن هذا لا يعني أن الجناح الجذري الذي يريد أن يرى تغييراً للنظام وليس استدارات سياسية يقوم بها النظام في لحظة الأزمة القائمة ليس لديه القدرة على إعادة رص الصفوف الوطنية، وإجبار مكونات الحكم على تغيير كبير في الموقف. على العكس من ذلك فإن اصطفافات نقابية وجماهيرية تلوح في الأفق، ما سيعطي للحركة الشعبية في الجزائر مدّاً هائلاً قد يؤدي إلى قلب موازين القوى بسرعة مذهلة.
أما التدخلات الخارجية فهي محدودة وتكاد تكون معدومة عندما يتعلق الامر بالتدخلات الإقليمية، ولكنها أكبر بكثير في الحالة الدولية مما هو عليه الأمر في السودان.
الملف في الموقف الدولي أن أوروبا عموماً وفرنسا تحديداً كانت مع توجهات بوتفليقة لحل الأزمة، ولم تقطع مع مطالب الحركة الشعبية، وهي الآن تميل إلى أطروحات الجيش دون تحييد دوره المباشر. ولكنها في الواقع حذرة جداً من تأييد مطالب تغيير النظام.
والسؤال هو: هل يمكن أن تصطف أوروبا وفرنسا خصوصاً ضد الحركة الشعبية إذا ما وصلت الأمور إلى الصدام؟
الجواب من وجهة نظري هو لعم.
لهذا كله في الجزائر المساحة الرمادية ما زالت واسعة. والمراهنة على تراجع وانشقاق الحركة الشعبية ليست مضمونة النتائج، كما أن تخويف الناس من «حالات الفوضى» بما يتضمنه هذا التخويف من إيحاءات يمكن أن تصل إلى التهديد ـ أو هي وصلت بالفعل ـ لن يجدي كثيراً على ما يبدو.
التغيير في الجزائر قادم، لكن الثمن أعلى بكثير من الثمن الذي يبدو أن السودان سيدفعه للوصول إلى الديمقراطية. وعنوان النجاح في الحالتين، الجزائرية والسودانية هو سلمية الحراك، إذ لم يعد ممكناً أن يلجأ أي طرف لكسر معادلة «السلمية» دون أن يغامر بكامل دوره.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية