واضح من خلال تصفح واستعراض آراء الكثيرين من الكتّاب والصحافيين والباحثين في الصحف الفلسطينية وحتى العربية أن موضوع "الربيع العربي" قد عاد ليستحوذ على اهتمامهم من جديد، وذلك في ضوء التطورات المتسارعة في كل من الجزائر والسودان، وفي ضوء بعض التحولات الكبيرة في مسار الأحداث فيهما، وما تنبئ به هذه الأحداث من تفاعلات نوعية جديدة.


في مقال الأسبوع المنصرم (الخميس) حاولت أن أُبيّن أن نجاح عملية التحول الديمقراطي في هذين البلدين باتت مرهونة بتراجع الدور السلبي للجيش، وكذلك تفادي دور منظمات "الإسلام السياسي" لجهة ما يمكن أن تلعبه من دور يؤدي إلى خروج الهبّات عن مسارها السلمي، إضافة إلى أهمية الحذر من دور التدخل الخارجي في هذه الهبّات.


في مقال اليوم سأتناول السودان على أن أتناول الجزائر في مقال قادم.


والسبب أن تطورات الأحداث (أحداث الهبّة الجماهيرية) في السودان أكثر وضوحا، والتحولات أكثر عمقاً عما هو عليه الوضع في الجزائر حتى الآن.


لنبدأ من موقف الجيش وأجهزة الأمن.


على ما يبدو فإن الجيش وكذلك بعض القطاعات الأمنية قد أدركوا في سياق متابعة أحداث الهبّة الجماهيرية أن نظام البشير ليس مستعداً للاستجابة الفعلية لأي من المطالب الجوهرية للهبّة، وعلى ما يبدو، أيضاً، فإنهم (الجيش وبعض قطاعات الأمن) قد اتخذوا القرار بالسيطرة على زمام الأمور في السودان لتجنب ما لا تُحمد عقباه.


باختصار، نحن أمام انقلاب عسكري منظم ومدروس.


المرحلة الأولى من هذا الانقلاب كانت محاولة للالتفاف على مطالب الحركة الشعبية بواسطة التخلص من رأس النظام لكي يعود النظام ويعيد تنظيم صفوفه من جديد، وحصر الاستجابة للهبّة الجماهيرية في قضايا مظهرية من إزاحة بعض الرموز (والتحفُّظ عليها) والحديث عن مرحلة انتقالية "طويلة" تتيح نجاح عملية الالتفاف وإعادة التنظيم.


هنا فهم بعض رموز المجلس العسكري الحاليين أن "اللعبة" لن تنحح، وأن موقف رئيس الأركان مرفوض بشدة، وأن الالتفاف على المطالب بات متعذ‍ّراً إن لم نقل مستحيلاً.


ليس واضحاً بعد، أو ليس واضحاً تماماً إن كان رموز المجلس العسكري الحاليون قد "ضحُّوا" بقائد الأركان بوساطة "حرقه" أمام الحركة الجماهيرية، أم أنهم استجابوا ببساطة لنبض الشارع وسارعوا إلى ذلك قبل فوات الأوان، وليس واضحاً تماماً فيما إذا كانوا قد خططوا لكل شيء بما في ذلك كل السياق.


المهم أن الجيش لم يكتفِ "بالتحفُّظ" على البشير، وإنما بدأ فعلياً بعملية تطهير واسعة طالت حتى الآن أزلام النظام في الجيش والأجهزة الأمنية وحزب النظام، والأمور أصبحت شديدة الوضوح في أننا اليوم أمام مجلس عسكري جريء، ومحنّك وعلى درجة عالية من التعقل في مواجهة الهبّة الجماهيرية، والتدرج الذي يبدو مدروساً في الاستجابة للمطالب الشعبية التي حسمت أمرها نحو الحكم المدني بأسرع ما يُمكن وما هو متاح.


وإذا لم تحصل تطورات دراماتيكية (محاولات لانقلاب عسكري مضاد، أو محاولات اغتيال لبعض رموز المجلس العسكري والقيادات الأمنية الشابة الجديدة) فإن عبور السودان للجسر نحو ديمقراطية جديدة ونحو حكم مدني بعد فترة معقولة ومقبولة يتم التفاهم عليها بين الجيش وقادة الحركة الشعبية أصبح ممكناً بل ومرجّحاً في الواقع.


أما موقف الحركة الشعبية في السودان فهو مؤشر آخر على هذه الإمكانية، وهو بدوره يشكل سبباً إضافياً لترجيح هذا الانتقال.


إذا لم تنخدع هذه الحركة بالانقلاب المزيّف، وأعلنت منذ البداية رفضها المطلق لأي محاولات تجميلية تعيد إنتاج النظام، وأصرّت على التغيير الحقيقي والعبور إلى الحكم المدني المستند إلى الإرادة الشعبية وإلى الانتخابات الحرّة.


كما رفضت رفضاً قاطعاً محاولة قائد الأركان تطويل وتسويف "مدة" المرحلة الانتقالية، وأكدت ضرورة اختصار المرحلة الانتقالية إلى عدة شهور قليلة فقط، وعلى أن تبقى الحركة الشعبية على جاهزيتها الكاملة لمواجهة كل الاحتمالات.


وتأكيداً على وعي ونضج الحركة الشعبية وتمسكها الكامل بأهدافها رفضت "استفراد" المجلس العسكري الجديد والحالي بالقوى الشعبية منفردة، وما زالت تصر على أن يتم التعامل مع الطيف السياسي باعتباره حركة وطنية واحدة وموحدة من حيث الأهداف ومن حيث المطالب الملموسة، أيضاً.


أما بشأن منظمات "الإسلام السياسي" ودورها فقد بات معروفاً اليوم أن الإطاحة بنظام البشير، والبدء الفعلي بملاحقة رموزه وتوجيه التهم بالفساد لمفاصل رئيسة في النظام السابق يعني بصورة قطعية أن جماعة الإخوان المسلمين التي كان النظام امتداداً لها وتعبيراً عن جوهر مواقفها قد أصبحت مستهدفة من قبل المجلس العسكري ومن قبل الحركة الشعبية في السودان.


لهذه الاعتبارات وكل هذه العوامل في تضافرها وتكامل فعلها وتأثيرها، فإن السودان ربما يكون البلد العربي الأوحد حتى الآن الذي يبدأ مسيرة عبور الجسر نحو الحكم المدني ونحو الديمقراطية مهما كانت صعوبات وعوائق هذا الحكم وهذه الديمقراطية.


أما إذا صحت وصدقت الأنباء التي تقول إن المجلس العسكري الحالي هم من أنصار واتباع وتلامذة الجنرال السوداني المخلص والمدهش "سوار الذهب"، وإذا تأكدت كل المؤشرات حول تماسك كل أطراف الحركة الوطنية بمطالبها وتجاوزت بالكامل الحركة الوطنية التقليدية بما فيها حزب "الأمة"، وبعض الإسلاميين الليبراليين، وإذا ما تمت قصقصة كل أجنحة وذيول الإخوان في السودان وامتداداتهم في المؤسسات العسكرية والأمنية والدينية، فإن سودانا ديمقراطيا جديداً يصبح على الأبواب.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد