الفساد هو نقيض الصلاح , وهو تعطل مصالح الناس . وهو لفظ شامل لكافة النواحي السلبية في الحياة. نحن في واقع يشهد فسادا كبيرا (سياسيا وداخليا) يستلزم اصلاحا جذريا يقوم عليه مصلحون مهرة يتمتعون بالقدرة والكفاءة على حل المشكلات وفض النزاعات , ليسوا هواةً ولا مجربين .. لكن أين هم ؟؟ لدينا قائمة طويلة من الفساد المزمن !! من " فشل سياسي " ..الى "اسهال/نزيف اعلامي " ..الى " تصلب شرايين" فصائلي " .. الى "اجهاد" حكومي ..الى "التهاب " مزمن في المفاصل الوطنية , واحيانا تصيبنا "جلطة سيا/اعلامية " , وقد تفاجئنا "سكتة " مصالحية تلزمنا غرفة الانعاش لفترة طويلة !! ان الاصلاح هو من اعظم الفرائض التي تعلو على درجة الصلاة والصيام لان الامة لا تقوم الا به , فقد قال رسول الله (ص) «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة, قالوا: بلى يا رسول الله، قال( إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة), لذا أناطه الله برجال عظماء من ذوي الفهم والعلم والقدرة , ولم يتركه للهواة أو المجربين !! ان فساد البين (العلاقات الوطنية) تقصم ظهور الناس وتقتل الامل وتذهب بهم الى المجاهيل, لكن بالصلح تُستجلب المودات وتعمر البيوتات، ويبثُ الأمنُ ، ومن ثَمَّ يتفرغُ الناس للتحرير وبناء الاوطان بدلاً من إفناءِ الشهورِ والسنواتِ في المنازعاتِ، والكيدِ في الخصومات. المشكلة لا تكمن في وجود الفساد ( فهو موجود منذ بدء الخليقة) , بل في من يتصدى له ان كان لديه من العلم والقدرة ما يمكنه من معالجته أم أنه يتخبط ويجرب بلا طائل. آفةُ المصلحين اما انهم يجهلون كيف يصلحون أو يتبعون سبلا غير مجدية في معالجة الباطل, ومن ثم يكثر الفساد وتزداد المحنة . هذا بالرغم من أن المصلحين قد يملكون النية الحسنة ويبذلون الجهود المضنية ..لكن تبقى المشكلة في ان هذا غير كاف لضمان النتائج ما لم توضع النية والجهد في الاتجاه الصحيح الذي يتوافق وسنن التغيير والاصلاح. ان مسألة تغيير الواقع ليست مهمة هينة يمكن ان تتحقق بالقناعات الذاتية أو بالشعارات او ب(الانتصارات) الاعلامية او بتعرية الخصم . انها مسألة علم واحتراف ..انها صنعة المفكرين الموهوبين . ان الله عاب على هؤلاء الذين يتصدون للإصلاح ويفتقدون مؤهلاته, بقوله ( الا تفعلوه تكن فتنة في الارض وفساد كبير) كثرت لدينا المحاولات (ندوات ,لقاءات, مسيرات, مؤتمرات , اجتماعات مطولة..الخ ) لاصلاح واقعنا الفلسطيني (سياسيا واجتماعيا) , لكن دون ان ننجح في معالجة مشاكلنا , بل اننا نتراجع الى الوراء وننتكس الى الخلف , اذن أين تكمن المشكلة اذا كان لدينا سلطة وحكومة ونحو 15 فصيلا ومؤسسات مجتمع مدني وكتاب ومختصون ومحللون !! ليس أسهل من أن تعقد مؤتمرا صحفيا أو تحرك مسيرة أو تصدر بيانا (شديد اللهجة) .. لكن غالبا ما تأتي النتائج (صوتية) ,تسمع صداها ولا ترى نتائجها . نحن نحب أن نشبع /نرضي ذاتنا بأننا فعلنا ما علينا من خلال هذه الوسائل (المريحة) دون أن نقتنع بأن النتائج تقارب الصفر !! ** لا مجال للهروب لا مجال للمصلح ان يعتذر بقوة الفساد ولا ان يتهرب من مواجهته تحت مبرر المؤامرات والتحديات , فهذه سنة الله في خلقه . ان اشرف مخلوقاته (وهم الانبياء) وضعهم الله امام امتحان اشد واصعب (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين).. ليس مجرد عدو عادي بل مجرم وعات في الاجرام الى درجة انه قد يؤذي النبي او يقتله او يطرده من ارضه , ذلك ليمتحن صبره ويختبره مدى قوة مواجهته . ومع ذلك طالبهم الله بالاصرار والمضي الى نهاية الطريق وعدم التردد ووجههم الى الوسائل العملية السليمة في مواجهة الباطل.. ان القاعدة الرئيسة في مواجهة الازمات ان نتحلى بقدر عظيم من الشجاعة والاصرار ,والا نستسلم حتى نصل الى نهاية الطريق .نحن الفلسطينيون (نفسنا قصير),لا نطيق الصبر في معالجة القضايا حتى تنضج,ومن ثم نقفز الى ردود أفعال سريعة (مثل عود الكبريت) ..يشتعل ثم ينطفئ . ** ليس بالنيات بل بالمهارات والقدرات ان الاصلاح ليست مجرد نيات حسنة او ايمان تعبدي بقدر ما هي قدرة على الابداع وفن في معالجة الازمات. ان ابا ذر (رضي الله عنه) من جهابذة الزاهدين المتقين لما سأل الولاية لم يعطها وقال له معلم البشرية (انك رجل ضعيف) , ليس ضعيف الايمان والنزاهة بقدر ما هو ضعيف في مؤهلات الحكم والقيام على شئون الناس . ان الذي يتصدر عملية الاصلاح ينبغي ان يكون ماهرا عبقريا.. صبورا في احتمال الاذى وامتصاص الصدمات .. قادرا على كسب ثقة الناس وتعزيز العلاقات معهم .. ناجحا في التوفيق وفن المداراة ..ذكيا في ابتداع الافكار الخلاقة واستخراج الابرة من كومة القش !! هؤلاء الذين ي فتح الله على أيديهم الابواب المغلقة . انظر كيف عالجنا فشلنا السياسي (طوال عشرين عاما) بالتجريب وسياسة الانتظار والتقلب بين بدائل هشة والعمل المتفرد وافتقاد العمل الابداعي في ايجاد الوسائل الناجعة والتخلي عن أوراق القوة حتى وصلنا الى هذه الحالة المزرية !! وانظر كيف عالجنا مشاكلنا الداخلية بشيء من المراهقة وتبادل الاتهامات وتعميق الخصومات حتى أصابنا الشلل والملل والبلل !! ** بدايات خاطئة المشكلة في المصلحين انهم يميلون غالبا الى بدء محاولاتهم الاصلاحية بوسائل خاطئة تجرهم الى نتائج خاطئة , تبدأ باشهار سيف المحاربة وكشف العورات والهجوم على الخصم وفضحه مظنة الحاق الهزيمة به. وغالبا ما يميل هؤلاء الى (سحر) الاعلام كمحطة أولى لمعالجة الازمات . ان القناعة بان الاعلام هو الساحة الامثل لحل الخلافات واستعراض العضلات هو وهم كبير ثبت انه يعمق المشاكل ويصعبها. كان من المفترض ان يلعب الاعلام دورا بناءً ,مهدئا , مقربا , مروجا للافكار والمبادرات الايجابية وحتى منتقدا (بشكل مؤدب), لكن غلبت عليه لغة الشتيمة والشماتة والصراخ .. فتحول الى مفرق للجماعات وهادم للمبادرات !! لقد بلغت عناية الاسلام بالصلح إلى أنه رُخِّص فيه بالكذب مع قباحته وشدة تحريمه. فقد قال رسول الله (ص) "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا) ,بمعنى ان المصلح ينبغي ان يذهب بعيدا في استخدام لغة "دبلوماسية" لبقة في تسويق الاصلاح ومعالجة الاخطاء وان يتفنن في انتقاء الكلمات والتعابير. ان العبوس والكلمات النارية وتثوير المشاعر والشعارات الكبيرة لا تطعم خبزا ولا تُنزل غيثا !! الم تر ان الله هدى الناس الى افضل الوسائل واعظمها في التغيير ( ادفع بالتي هي احسن ) ,بمعنى قبل ان تشرع بالهجوم (السلبي) وقبل عملية الاصلاح يجب ان تتعب ذهنك وعقلك في البحث عن افضل سبل الاصلاح وأجداها, ثم ان الله يمنحك النتيجة مباشرة (فاذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌ حميم ) بمعنى ان المصلح يكون قد نجح في حل الخلافات واجتثاث المنازعات . وهذه لا يمنحها الله لا لمن يمتلك ميزات ومواهب عبقرية(وما يلقاها الا الذين صبروا) ..قوة الصبر والاحتمال , (وما يلقاها الا ذو حظ عظيم ) حظ عظيم في الفهم والوعي والقدرة على معالجة المشاكل. وليعلم المصلح أن الشرّ لا يُطفأ بالشر، كما أن النار لا تُطفأ بالنار، ولكنه بالخير يُطفأ، فلا تسكن الإساءة إلا بالإحسان، ولهذا فقد يحتاجُ المتنازعان إلى أن يتنازلا عن بعض الحقِّ فيما بينهما. ** وسائل مجدية ان اعمال العقل والفكر في استخراج الحلول "فريضة وطنية " تستوجب ألا نفرط بها ولا نستبدلها بقوة العواطف ووهج الشعارات . يجب أن ندرك بداية ان المشاكل والازمات لا تحل الا على ايدي (العقلاء) الذين يفكرون بعقولهم قبل عواطفهم ويضعون حسابات الوطن قبل حساباتهم ..وعلى قاعدة منهجية علمية في معالجة الازمات (علم ادارة) .. منهجية تؤدي الى تحقيق نتائج . مشاكلنا قد تكون بسيطة جدا وقريبة من الحل ..لكن اذا غاب العقل الجمعي والحكمة وفن المداراة تتحول الى غول بشع يؤرق مضاجعنا !! تجربتنا في الواقع الفلسطيني(ولدي العشرات من الامثلة) تقول ان رؤيتنا في معالجة الازمات لا تستند الى منهجية ولا الى عمل احترافي بقدر ما تستند الى ردود افعال او مناكفات أو عمل مجتزأ, تفضي في النهاية الى لا نتائج !! , لذا فان مشاكلنا تزداد وتتضخم , ثم نسأل أنفسنا (بعد كل هذه الجهود والمؤتمرات واللقاءات لماذا لم نتقدم ..لماذا لم تُحل مشكلة واحدة ؟)..هل المشكلة في المشكلة أم فيمن يعجز عن حلها ؟!! ان أهم نجاحات المصلح تتمثل في امتلاكه بدائل تقنع الشارع بجدواها وواقعيتها ..وفي قدرته على المبادرة ..وفي قدرته على تسويقها باعلام ذكي ولبق ! ان المصلحين لابد ان يكونوا على قدر عظيم من مؤهلات الاصلاح..لان قضيتنا كبيرة وبحاجة الى قامات كبيرة .لسنا بحاجة الى من يتحدثون كثيرا ويفعلون قليلا ..ولا الى من يفرقون ولا يقربون ,نحن بحاجة الى مفاتيح الخير ومغاليق الشر ..انهم كالعملة النادرة في عصرنا !! مهمة الاصلاح عظيمة وكبيرة .. ليست قابلة للتجريب.. ليست قابلة للفشل , فمن لديه الكفاءة لتحمل هموم الوطن بسلاح العلم والخبرة والفهم الوطني الواسع فليتقدم والا فلا داعي للمجازفات والمغامرات...
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية