القمة العربية الثلاثون التي انعقدت في تونس نهاية الشهر المنصرم، لم تعكس بعد، وعي الزعماء العرب، لطبيعة المخططات الأميركية الإسرائيلية، التي تستهدف الأمة العربية على الرغم من انقشاع بعض الضباب الذي كان يشوش الرؤية الحقيقية لأبعاد تلك المخططات.


مع ذلك ثمة قدر من الحرارة، في كلمات الرؤساء، يلفت النظر منها ما ورد على لسان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي استخدم للمرة الأولى منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد مصطلح الصراع العربي الصهيوني. كما يلفت النظر أيضاً تشديد الأغلبية على الالتزام بأولوية وأهمية القضية الفلسطينية سواء كان ذلك يعكس وعياء حقيقياً أم درءاً للاتهامات الموجهة اليهم، بالتراجع عن ذلك لحساب أولوية الخطر الإيراني. القرارات جاءت إلى حد كبير مكررة، ومنسوخة عن قرارات القمم السابقة مع تحديث يقترب من ملامسة التطورات التي جرت بين القمتين السابقة والحالية من نوع الموقف من القرار الأميركي بشأن الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان.


ولعلّ الأهم من كل ذلك، أن هذه القمة لا تخرج عن سياق وآليات اتخاذ القرارات، كما تعود الزعماء في قمم سابقة، حيث يصادق الزعماء على ما يجري صياغته من قبل اللجان التحضيرية، ثم يكتفون بإلقاء الخطب والكلمات، التي تتسم بطابع دبلوماسي شكلي. تفتقر القمة العربية الحالية، كما سابقاتها إلى آلية التقييم الجماعي لما جرى بين قمتين، ولما تم تنفيذه من قرارات سابقة، بما يترك عملية التقييم والنقد، للكلمات والخطب الفردية.


الأكيد أن هذه القمة لا ترتقي إلى مستوى الوعي لضرورات المرحلة على الرغم من شراسة وخطورة السياسات الأميركية الإسرائيلية، التي لم تقف عند حدود ما جرى ويجري على الساحات التقليدية المفتوحة منذ سنوات على لائحة الدم والوجع والتهديد، ومصادرة الحقوق.


كان من المفروض أن تصحو الأنظمة التي تعتقد أنها بمنأى عن خطر التعرض لسياسات ومخططات الحلف الأميركي الإسرائيلي، وقادها العمى السياسي، نحو الانخراط في تعميق جراح اشقائهم، والتعاون مع الأعداء إما لأنهم أدوات لتنفيذ تلك المخططات، أو لأنهم يمارسون الانتقام ضد هذا النظام العربي أو ذاك.


المرحلة التي دخلتها الأمة العربية منذ "ثورة الياسمين" في تونس نهاية العام 2010، لا تزال مفتوحة، وإذا كان المخطط قد استهدف بداية الدول المركزية، مصر وسورية والعراق، إلاّ ان ذلك الاختيار لم يكن إلاّ لإضعاف قدرة الأمة العربية، في مواجهة أحد الأهداف الأساسية، وهو دول النفط العربي شرق وغرب الوطن العربي.


لا نقول إن ما جرى ويجري في الجزائر. بلد المليون ونصف المليون شهيد، يقف وراءه العامل الخارجي، الطامع في مقدرات البلد، من النفط والغاز، لكن التحولات الجارية في ذلك البلد، تشكل استكمالاً، للمرحلة التي دخلتها الأمة العربية منذ تسع سنوات.


بالتوازي مع التطورات التي اندلعت في الجزائر، تندلع الاحتجاجات الشعبية، السلمية في السودان، الذي اعتقد رئيسها البشير، أنه اشترى عتقه من ملاحقة الجنائية الدولية، بموافقته وتسهيله لعملية انقسام السودان بين شمال وجنوب.


الفارق بين ما يجري في الجزائر وما يجري في السودان، يكمن في البعد الحضاري، الذي خلفته الثورة الجزائرية، التي امتدت لنحو مئة وثلاثين سنة وهي تقارع الاستعمار إلى أن نال البلد استقلاله عام 1962. دماء شهداء الثورة الجزائرية لم تجفّ بعد، الأمر الذي يمنع الناس عن استخدام العنف في مواجهة نظام متحجّر منذ ستة وخمسين عاماً. 


وعلى الرغم من اختلاف الأوضاع والأسباب المباشرة لما يجري في الجزائر والسودان، إلاّ ان عجز البشير واستبداده، يتساوى مع العجز الفيزيائي الذي يعاني منه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وإذا كان نظام البشير، يقدم اسوأ نموذج لنظام إسلامي مستبد ومتخلف ولا يتورّع عن ارتكاب المجازر والتمييز العنصري ضد مواطنيه، فإن استمرار نظام يقوده حزب جبهة التحرير الجزائرية منذ الاستقلال وبعد أن غاب عنه قادته التاريخيون، قد بات يشكل حجر عثرة أمام تقدم الجزائر، التي تقف على مسافة قريبة جداً، من البلاد الأوروبية المتطورة. عند التدقيق في مشهد ما جرى حتى الآن على ساحة الأحداث منذ تسع سنوات، سنلاحظ مدى تأثير الحضارة الأوروبية على شعوب المغرب العربي، فلقد اتسمت "ثورة الياسمين" بالسلمية عموماً، وكان تدخل الجيش لصالح عملية التغيير، وفي الجزائر يتكرر المشهد مع دور أكثر بروزاً ووضوحاً للجيش الوطني، الذي استوعب أبعاد حركة الجماهير وشكل سنداً لها، حيث وقف على مسافة متساوية مع الأطراف، وعلى مسافة متطابقة مع الحرص على البلاد.


في المغرب العربي، كان الملك محمد السادس الأذكى بين أقرانه، حين قام مبكراً، باستيعاب الدرس، فأجرى تغييرات دستورية، وسعت صلاحيات الحكومة، والبرلمان، وسمحت للإخوان المسلمين بتشكيل الحكومة بعد فوزهم في الانتخابات. وفي الدول الثلاث، ثمة مساحة متوفرة لعمل وفعالية الأحزاب السياسية المعارضة، ومنظمات المجتمع المدني.


وإذا جاز لنا أن نقيّم ما جرى، استناداً إلى أحد أهداف المخطط الأميركي الصهيوني، وهو تقسيم المقسّم العربي، وتحويله إلى دويلات طائفية ودينية وعرقية بما يمنح إسرائيل شرعية وجودها كدولة يهودية عنصرية، فإن هذا الهدف قد فشل تماماً، الأمر الذي يعكس عمق عملية الاندماج في المجتمعات العربية. حتى في العراق الذي تؤهله تركيبته الطائفية والقومية لأن يكون الأول الذي يتعرض للتمزيق، فإن هذا المخطط قد فشل، حتى أن الحركة القومية الكردية فشلت في إجراء الاستفتاء على الاستقلال. غير أن فشل هذا المخطط بالنسبة لهذا الهدف المحدد، لا يعني أن المخطط سيقف عند هذا الحد بل انه يمضي قدماً، ليغطي كل دول المنطقة، بما يسمح للولايات المتحدة بمزيد من الهيمنة ولإسرائيل التوسع في مشروعها الاستعماري.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد