قد يبدو للوهلة الأولى لمن يركز على عنوان هذا المقال أن هناك أمرًا غريبًا، وذلك من منطلق كيف يمكن الربط بين معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية الموقَّعة في 26 مارس 1979 -أي منذ أربعة عقود- و” صفقة القرن ”؛ تلك الخطة الأمريكية المتوقّع طرحها خلال أسابيع قليلة قادمة، وتحديدًا بعد الانتخابات العامة الإسرائيلية المقررة في التاسع من أبريل الجاري، أو في أعقاب تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة. ومن ثمّ، سنحاول في هذا المقال توضيح ماذا نقصد بالارتباط بين معاهدة السلام و”صفقة القرن”، وما هي جوانب وطبيعة هذا الارتباط.

المتابع للواقع الإقليمي والدولي الحالي، سواء الضعف العربي، أو التحيز الأمريكي السافر لإسرائيل، أو تعنت الحكومة الإسرائيلية الذي فاق كل الحدود، أو الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني؛ يجد أن معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية سوف تظل علامة فارقة، ليس فقط في تاريخ العلاقات الثنائية بين الدولتين الموقعتين على المعاهدة، ولكن في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي. وهذا الأمر ليس من قبيل المبالغة والتحيز لموقف مصر، ولكن انطلاقًا من نصوص المعاهدة وبنود اتفاقية إطار السلام الشامل، وما تم تنفيذه بالفعل على الأرض. وكذا النتائج التي تحققت وهو ما يمكن توضيحه فيما يلي.

– أن المعاهدة أدت إلى انسحاب إسرائيلي كامل من كافة أراضي سيناء، كان آخرها انسحاب إسرائيل من طابا، ورفع العلم المصري عليها في التاسع عشر من مارس عام 1989.

– أن مصر حققت سابقة في تاريخ تسوية الصراع العربي-الإسرائيلي، وهي التطبيق الكامل لقرار مجلس الأمن رقم 242، حيث نجحت مصر في إجبار إسرائيل على الانسحاب من سيناء كلها. وبهذا أسقطنا التفسير الإسرائيلي بأن قرار 242 ينص على الانسحاب من (أراضٍ)، أي انسحاب جزئي وليس انسحابًا من (كل الأراضي) التي احتلتها.

– أن المعاهدة لم تفرض على مصر أية قيود من أي نوع، سواء فيما يتعلق بمجال تنمية سيناء أو في مجال زيادة وتدعيم قدراتها العسكرية، حيث إننا نرى حاليًّا طفرة غير مسبوقة في هذين المجالين. أضف إلى ذلك أن حجم القوات العسكرية المصرية الموجودة حاليًّا في المنطقة (ج) في سيناء يفوق بمئات الأضعاف ما هو منصوص عليه في البروتوكول الأمني للمعاهدة الخاص بالترتيبات الأمنية في سيناء.

– أن مصر وقعت على اتفاقية إطار السلام الشامل في الشرق الأوسط المتعلقة بالقضية الفلسطينية في السابع عشر من أكتوبر 1978، أي قبل توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل بستة أشهر، وهو ما يؤكد أن الشأن الفلسطيني كان يحتل أولوية في سلم الاهتمامات المصرية وهي في بداية تحركها في توجه السلام مع إسرائيل.

وارتباطًا بهذا التوجه المصري لوضع أسس التسوية الشاملة، لا بد أن أُشير إلى ما تضمنته المعاهدة واتفاقية إطار السلام الشامل والخطابات المتبادلة المرفقة بالمعاهدة حول المشكلة الفلسطينية وكيفية تسويتها، وكذا شكل التسوية على الجبهات الأخرى بما فيها الجولان، وهو ما جاء على النحو التالي:

– أن مبادئ التسوية المنصوص عليها في الاتفاقية (معظمها مقررات الشرعية الدولية) ينبغي أن تُطبق على معاهدات السلام بين إسرائيل وبين كل من جيرانها مصر والأردن وسوريا ولبنان.

– ضرورة أن تكون هناك ترتيبات انتقالية بالنسبة للضفة الغربية وقطاع غزة لفترة لا تتجاوز خمس سنوات من أجل توفير حكم ذاتي كامل، على أن تُجرَى مفاوضات لتحديد الوضع النهائي للضفة وغزة بحلول نهاية الفترة الانتقالية.

– ترتكز جميع المفاوضات على أساس جميع النصوص والمبادئ الواردة في قرار مجلس الأمن رقم 242، وتقرر هذه المفاوضات ضمن أشياء أخرى موضوع الحدود وطبيعة ترتيبات الأمن.

– توقيع كل من الرؤساء الثلاثة (السادات، كارتر، بيجين) على خطاب في نفس يوم التوقيع على المعاهدة (مارس 1979) يشير إلى البدء خلال شهر في مفاوضات الحكم الذاتي وهو ما تم بالفعل.

– قدمت مصر مذكرة إلى الولايات المتحدة في 13 أكتوبر 1978 تضمنت عدد 23 إجراء بناء ثقة يجب على إسرائيل تنفيذها في الضفة وغزة، من أهمها: تجميد إنشاء المستوطنات وإزالة بعضها، وعودة بعض النازحين واللاجئين، وانسحاب إسرائيل من بعض المناطق الفلسطينية، وإعادة إسرائيل بعض الأراضي العامة للسلطة الفلسطينية.

وفي السياق نفسه، لا يمكن أن يفوتنا أن نستعرض موقف الولايات المتحدة في أعقاب حرب 1967 الذي طالب بضرورة التوصل لحل عادل ودائم لمشكلة اللاجئين، وكذا اعتبار القرار 242 هو أساس السلام العادل والدائم في المنطقة، حيث لعبت واشنطن بعد ذلك دور الشريك الكامل الإيجابي في المفاوضات. أما الموقف الأمريكي الذي يمكن أن أسميه بالموقف التاريخي، فقد تبلور بوضوح إزاء أهم القضايا العربية والفلسطينية والإسلامية وهي قضية القدس ، حيث اتخذت واشنطن موقفًا علنيًّا متقدمًا للغاية تجاه هذه القضية في أعقاب الحرب، وهو ما يمكن إيضاحه على النحو التالي:

– بيان السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة “آرثر جولد برج” الذي أدلى به أمام جلسة الجمعية العامة في يوليو 1967، حيث أشار إلى أن واشنطن لا تقبل ولا تعترف بأية إجراءات منفردة اتخذتها إسرائيل في القدس، فهي من وجهة النظر الأمريكية مجرد تدابير مؤقتة لا تمثل حكمًا على الوضع النهائي والدائم للقدس.

– بيان السفير الأمريكي لدى مجلس الأمن “تشارلز يوست” الذي أدلى به في أول يوليو 1969، والذي أشار إلى أن واشنطن تعتبر أن الجزء الذي وقع من القدس تحت سيطرة إسرائيل في حرب 67 مثله مثل مناطق أخرى احتلتها إسرائيل، وبالتالي يعتبر منطقة محتلة، مع رفض الاعتراف بأية إجراءات اتخذتها إسرائيل في القدس.

ومن المؤكد ونحن نستعرض ما قدمته المعاهدة واتفاقية كامب ديفيد من مواقف إيجابية على صعيد الصراع العربي-الإسرائيلي ككل، لا يمكن أن نقول إن هذه المواقف كانت مثالية، أو إن النتائج كانت نموذجية تمامًا، ولكنها كانت أفضل نتائج يمكن الوصول إليها في هذه المرحلة في ظل الظروف الإقليمية والدولية، وفي ظل موازين القوى، وفي أعقاب حرب الاستنزاف ثم حرب أكتوبر 73 العظيمة التي خاضتها مصر من أجل تحرير الأرض وإعادة الكرامة العربية بعد ست سنوات فقط من احتلال إسرائيل لسيناء.

ولعلّ أهم الجوانب السلبية التي أثّرت على الهدف المصري الأسمى بالوصول إلى تنفيذ حل عادل للقضية الفلسطينية تمثل في سلبية الموقف العربي آنذاك الذي لم يكتف بمقاطعة مصر، بل سعى لاتخاذ مواقف مضادة لها، كان أهمها رفض الفلسطينيين والسوريين المشاركة واللحاق بمسيرة السلام المصرية، وكذا نقل الجامعة العربية من مصر إلى تونس. بمعنى آخر، تركت الدول العربية مصر تحارب وحدها بشراسة في معركة سياسية كان من الأجدر أن تكون نموذجًا لموقف عربي قوي وداعم كما كان الوضع في حرب 73 العظيمة التي شهدت موقفًا عربيًّا تاريخيًّا غير مسبوق. وإذا كنت أومن تمامًا بعدم جدوى البكاء على اللبن المسكوب، يظل من حقي أن أسأل نفسي سؤالًا وهو: ماذا لو لحق العرب بمصر في معركة السلام منذ 40 عامًا؟ وهل كنا سنصل إلى الوضع العربي السيئ الراهن؟

وإذا انتقلنا من مرحلة معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، والإنجازات التي حققتها، والمبادئ التي أقرتها لصالح السلام الشامل، وضمان تحرك الولايات المتحدة كشريك كامل في كافة مراحل المفاوضات، ونقفز إلى المرحلة الراهنة التي بدأت بالغزو الأمريكي للعراق، ثم الصراعات المسلحة في كل من سوريا وليبيا واليمن، ودخول هذه الدول في دوامة البحث عن عودة الدولة مرة أخرى؛ فإنه من الواضح أن الواقع العربي أصبح مهيأ لمزيدٍ من التدهور والتفكك، ليس ذلك فقط بل سمح بتعاظم القوة الإسرائيلية والتمهيد لتطبيع مجاني مع الدول العربية، ثم تكوين حلف إسرائيلي أمريكي غير مسبوق يؤثر بالقطع في أحد جوانبه على الأمن القومي العربي.

وفي هذا المناخ بدأت الولايات المتحدة في بلورة ما يُسمى بـ”صفقة القرن” المتعلقة بتسوية الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، وبعض الإجراءات الخاصة بالأمن الإقليمي ومواجهة إيران. حيث قامت إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” منذ توليها السلطة بالتمهيد المتدرج لتنفيذ هذه الصفقة تحت مبررات متعددة، أهمها ضرورة التفكير في حلول غير تقليدية تعترف بطبيعة الواقع على الأرض، وخاصة متطلبات الأمن الإسرائيلي، ولذا قامت واشنطن بإتخاذ المواقف التالية:

– إسقاط مبدأ حل الدولتين الذي كان يُعد الأساس لحل القضية الفلسطينية رغم أنه كان فكرة أمريكية مطروحة منذ 2003.

– إصدار الرئيس “ترامب” قرارًا في السادس من ديسمبر 2017 بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، ثم إغلاق القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية.

– اتخاذ الإجراءات الخاصة بإنهاء مشكلة اللاجئين، وخاصة وقف الدعم المالي المقدم لوكالة غوث اللاجئين الأونروا ، وإنهاء عمل بعض المؤسسات التي تقدم عونًا ومساعدات للاجئين الفلسطينيين.

– توقيع الرئيس “ترامب” على قرار في 25 مارس الماضي يقضي بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان.

– إسقاط صفة “الاحتلال” عن الأراضي العربية المحتلة عام 67، وذلك في آخر تقرير صادر عن الخارجية الأمريكية.

وإذا كان من المنطقي ألا نتعامل مع “صفقة القرن” حتى يتم طرحها رسميًّا؛ إلا أن بعض الخطوط العامة للصفقة بدأت تتضح تدريجيًّا من خلال تصريحات بعض المسئولين الأمريكيين التي أشارت إلى أن الأمن الإسرائيلي يُعتبر أهم مبدأ تتم على أساسه أية تسوية سياسية، خاصة في الضفة الغربية، بمعنى أن تسيطر إسرائيل تمامًا على منطقة غور الأردن، وقد تعلن فرض السيادة عليها في مرحلة قادمة. كما أن احتياجات إسرائيل الأمنية ومواجهة إيران تقتضي عدم تفريطها في الجولان، وأن تظل القدس عاصمة لإسرائيل. وبالتالي، فإن “صفقة القرن” -في رأيي- جاءت لتنهي كل ما حاولت معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية إقراره وتثبيته لصالح عملية السلام الشامل في الشرق الأوسط. كما جاءت لتقضي على فرص تنفيذ مبادرة السلام العربية المطروحة عام 2002 التي لا تزال تُمثِّل الرؤية العربية لحل الصراع العربي الإسرائيلي.
ونأتي أخيرا إلى الاستحقاقات الواجبة على العالم العربي حيال صفقة القرن. في هذا المجال قد يكون من الواجب -من وجهة نظري- عدم قبول أي تسوية منقوصة ومشوهة وغير عادلة للقضية الفلسطينية، تلك القضية التي تدخل في إطار الدائرة الأولى للأمن القومي العربي. ولا يجب أن يقبل العالم العربي أي تسوية للقضية الفلسطينية لا تلبي المطالب والثوابت الفلسطينية المعروفة، خاصة فيما يتعلق بدولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود 1967 عاصمتها القدس الشرقية.  

وفي الوقت نفسه، من الضروري أن تسعى مصر قدر استطاعتها للتوصل إلى أكبر قدر من التوافق العربي للتصدي لأية مخططات خارجية يمكن أن تؤثر سلبًا على الأمن القومي العربي، سواء فيما يتعلق بالدخول في أحلاف وتكتلات ترتب علينا أعباء عسكرية غير مقبولة، أو بالنسبة للقضية العربية المركزية وهي القضية الفلسطينية. وأنا هنا لا أنادي بوحدة الموقف العربي، فتلك مسألة أصبحت بعيدة المنال، ولكني أتحدث عن قوة العلاقة وحجم التنسيق بين أهم ثلاث أو أربع دول عربية فقط بقيادة مصرية، أخذًا في الاعتبار أن العلاقات المصرية مع الولايات المتحدة تُعد علاقة استراتيجية يجب الحفاظ عليها وتطويرها، إلا أنه -في الوقت نفسه- ينبغي ألا ننسى أن واشنطن في عهد الرئيس “ترامب” مارست ضغطًا شديدًا على العرب، ولم تهتم إلا بإسرائيل، وانحازت إليها في قضايا القدس واللاجئين والجولان. ومن المؤكد أن البقية سوف تأتي تباعًا، وعلينا توقع الأسوأ.

الخلاصة، إن مصر بدورها التاريخي الذي لا يمكن أن ينتهي مهما كانت التحديات التي تواجهها، كانت دائمًا حريصة على أن تحمل الهم العربي، وتتحمل تبعاته في أصعب الأوقات. ولعل ما أشرت إليه فيما يتعلق بنتائج معاهدة السلام ومشتملاتها خير دليل على سلامة وقوة الموقف المصري، وقصور الموقف العربي آنذاك. ولذا يظل الدور المصري -مهما كانت المشاكل التي يواجهها داخليًّا- هو الدور الرئيسي المنوط به التصدي لأية صفقات يمكن أن تنال من الأمن القومي المصري والعربي، فمصر بتاريخها وشعبها وقيادتها لا يمكن لها إلا أن تكون دولة حرة قوية صاحبة قرار، مع ضرورة تجنب أن ندخل في صراعات أو نزاعات أو خلافات ليس من ورائها طائل. ولا شك أن خطاب السيد الرئيس “عبد الفتاح السيسي” في القمة العربية في تونس قد عكس مدى القلق المصري، ليس فقط على الواقع العربي ولكن على مستقبل المنطقة العربية كلها ما لم تتحرك الدول العربية بجدية وإدراك للمخاطر المحيطة بها من أجل حل مشاكلها والحفاظ على مصالحها وأمنها القومي.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد