كتبنا كثيراً عن دولة غزة عندما كان يتراءى للكثيرين أن هذا مجرد فانتازيا سياسية أو نزوات كتاب يخترعون في خيالاتهم ما يضيف إحباطا للقضية الفلسطينية التي تعيش أسوأ عصورها الظلامية بعد هذا الخراب الذي يحيط بها من جهاتها الأربع، لكن مع تجليات السياسة ومخططاتها على الأرض كما يبدو بوضوح يصبح الأمر مفهوما أكثر وأكثر واقعية.
حين نقول إن ليس لدى إسرائيل ما تعطيه للفلسطينيين سوى دولة في غزة فذلك ينبع من فهم الأيديولوجيا وعوامل السياسة والأمن ومراكز الدراسات وكيف تفكر هذه الدولة بمصالحها بشكل استراتيجي، وكيف تنفذ بهدوء شديد بلا حساب للزمن وكيف تصنع وقائع السياسة على الأرض وتحولها إلى واقع قائم.


إسرائيل دولة تعشق النسب والأرقام ولها بصمة في قراءتها وهي بصمة الديمغرافيا، ولأن أعداد اليهود محدودة على مستوى العالم ولأن اليهودية ديانة ليست تبشيرية ولأن اليهودية قومية أيضا فإن ذلك يحصر اليهود في أرقام معينة ومع تراجع الأعداد على مستوى العالم وخصوصا في الخارج وهي الظاهرة التي يطلق عليها البروفسور «سيرجيو دي فيرجولا» رئيس معهد اليهودية المعاصرة  بـ «الهولوكوست الصامت» ومع فكرة الدولة اليهودية النقية يصبح الهاجس الأول في هذه الدولة هو سيادة اليهودية ومنع العرب من أن يكونوا أغلبية يوما ما.


التحول في الفكر السياسي في إسرائيل التي كانت تؤمن بأرض إسرائيل الكبرى من النيل للفرات حدث في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وبالتحديد العام 84 نتاج وثيقة مهمة جدا صدرت عن مركز اليهودية المعاصرة في القدس وهو المركز المتخصص بإحصاء الأرقام قال فيها: «إنه في العام 2014 أي بعد ثلاثة عقود سيصبح عدد العرب تحت الحكم الإسرائيلي أكبر من عدد اليهود».


هذا الأمر يعني أن إسرائيل ستكون أمام تهديد وجودي، إما أن الأقلية حينها تحكم أغلبية وهذا لن يستمر للأبد وإما أن يتم تسليم الحكم للأغلبية وينتهي حلم دولة اليهود.


هذا التقرير أحدث رجّة في إسرائيل وأضاء كل الأضواء الحمر رافعا درجة التأهب السياسي إلى الحد الذي خرج فيه عضو كنيست عن طوره أثناء نقاشه عندما عرضت الأرقام والبيانات الديمغرافية الصاعدة لصالح العرب في الكنيست مطالبا «بفض هذه الجلسة وأن يذهب كل عضو الآن لأداء واجبه الوطني مع زوجته»، كان حينها شمعون بيرس رئيسا للوزراء في حكومة الرأسين آنذاك.


في تلك المرحلة حدث التحول وبدأت إسرائيل تفكر في إخراج أكبر عدد من العرب ووقع الاختيار على غزة كحمولة زائدة على إسرائيل أن تتخلص منها للعديد من الأسباب، منها أنها منطقة صغيرة وخالية من الموارد وغير مسيطر عليها إنجابيا وهي تقع بينها وبين دولة عقدت معها اتفاق سلام، وهنا كان السؤال من يأخذ غزة وكيف يمكن إلقاؤها وعبر عن ذلك رابين في لحظة صدق مع الواقع، واقع وحقيقة الفكر السياسي عن تمنياته بأن يبتلعها البحر.


وهنا كان اتفاق أوسلو في مضمونه يتعلق بغزة وألحقت به أريحا حتى لا يبدو بهذه الصراحة كأن الأمر يتعلق بغزة وحدها، وحاولت إسرائيل تكريس واقع النظام السياسي الفلسطيني في غزة مع إصرار شديد على استكمال وتسريع الاستيطان في الضفة لأن لها مشروعا آخر في ظل اعتقاد الفلسطيني ببراءة أن ما ينطبق على غزة يمكن أن ينطبق على الضفة في ذروة الحلم بمفاوضات ستنتهي بإقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة والقدس.


لكن الضفة الغربية وهي الأرض التي تعتبر التوراة أنها تجسدت فيها الروايات الدينية من الهيكل الذي نفى وجوده علماء الآثار اليهود وأهمهم إسرائيل فلكنشتاين ثم قبر يوسف ب نابلس وقبة راحيل ب بيت لحم ومدفن سارة بالخليل بالإضافة للبعد الأمني لجبال الضفة الغربية وكذلك المياه، ما يجعل ما قاله السفير الأميركي في إسرائيل فريدمان في مؤتمر الأيباك الأسبوع الماضي عن ضم الضفة الغربية هو الحقيقة التي لا يريد أن يراها الفلسطينيون ولا غيرهم، وهناك اعترافات سقطت من مسؤولين إسرائيليين في ذروة الحملة الانتخابية أبرزهم نفتالي بينيت حول ضم الضفة الغربية وكذلك رئيس الكنيست يولي أدلشتاين الذي اعتبر أن مهمة الكنيست القادمة هي السيطرة وشرعنة ضم الضفة الغربية.


أدرك عرفات بعد مرور السنوات الخمس المؤقتة أن هذا الاتفاق لا يؤدي إلى دولة كما يحلم وأن إسرائيل ليس لديها سوى غزة التي كانت كريمة في التعامل مع الفلسطينيين فيها لدرجة أعطتهم أحد أبرز رموز السيادة وهو المطار لكن في الضفة لم تسمح لهم برصف مدخل قرية، عندها قام عرفات بقلب الطاولة واستقر في الضفة التي تنشر فيها إسرائيل مستوطناتها بشكل متسارع ثم قتلته.  


لكنه كان قد رسخ واقعا للوطنية الفلسطينية بدولة في حدود 67 وعاصمتها القدس وأن الصراع الحقيقي في الضفة وعليها وهنا لا بد من حدث كبير يكسر هذه المعادلة تمثل بالانقسام وسيطرة حركة حماس على غزة بدعم دولة خليجية لا يمكن تبرئتها من دم المشروع الوطني وهي الدولة التي استمرت بدعم الانقسام.


العام 1988 أصدر مركز دراسات الأمن القومي دراسة على درجة من الأهمية نشرت بعنوان «دولة غزة» كانت الأكثر تعبيرا عما رست عليه سفن السياسة في الدولة التي بدأت منذ تلك الفترة بالتفكير باتفاق مع منظمة التحرير للتخلص من غزة. لكن من المفيد أن نعيد نشر ما قاله مستشار شارون لشؤون الأمن عاموس غورين وهو كلام لافت نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت العام 2001 إذ قال: «عندما يموت عرفات تتفكك السلطة بعد صراعات داخلية بين أجهزة السلطة والمنظمات المتطرفة» تؤدي بمساعدة إسرائيلية إلى إقامة ثلاث أو أربع مناطق حكم ذاتي وسيكون ممكناً التوصل لاتفاقيات محلية مع هذه الجهات اتفاقيات طويلة المدى».


اللافت هو التاريخ فقد غادر عرفات العام 2004 إذ كانت إسرائيل تعرف مسبقا ماذا سيحدث بالتفصيل، وهذه ليس مصادفة وبإمكاننا المغامرة والقول إنها جزء من هندسة ما آلت إليه الأوضاع لدينا ولا يمكن تبرئتها من الانقسام الذي حدث والذي أدى إلى تسهيل تجسيد الفكرة الإسرائيلية بدولة غزة أو إعادة تموضع الكيانية الفلسطينية فيها. 


وهذا بات واضحا إذا ما لاحظنا ما يحدث من مفاوضات الرغبة الإسرائيلية باتفاق طويل المدى مع حركة حماس وذلك أصبح واقعا في ظل التشرذم الفلسطيني واللامصالحة التي لم يعد يتحدث عنها أحد ولم تعد على الأجندة الفلسطينية.


حين بدأت إسرائيل مفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية ثارت ثائرة اليمين «كيف يمكن التفاوض مع منظمة إرهابية ؟ فإسرائيل لا تفاوض الإرهاب».


هذا اليمين الآن يفاوض حركة حماس دون احتجاج، وهو اليمين الذي جاء مع شعارات إنهاء حكمها في غزة لكن المصالح القومية أبعد كثيرا من شعارات هواة السياسة.


ما لدينا هو أننا نجلس جميعا على كومة من الخراب ونسير بانحدار شديد نحو كيان ما في غزة مع انتهاء الجزء الأكبر من الدور الوظيفي للسلطة في الضفة تمهيداً للسيطرة عليها وشرعنة ضمها .. هذا ما هو أمامنا وسط حالة التيه بعد أن تاهت البوصلة أو تم حرفها وتخريب مؤشرها من الداخل لتعرف كل الجهات إلا شمالها..!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد