خطير وغامض إلى حد كبير، ما يدور على ساحة الصراع بين فصائل المقاومة في غزة وإسرائيل، ومحكوم لحسابات دقيقة، من قبل الطرفين، هي حسابات لا تتجاوز الخطوط الحمر، ولذلك ربما كان الطرفان خاسرين.
نتنياهو الذي تعرض لحملات مستمرة من التحريض، حتى من قبل حلفائه في معسكر اليمين المتطرف، ومن قبل المستوطنين، على خلفية السياسة التي يتبعها في التعامل مع قطاع غزة، يسير على حد السيف. كان نتنياهو سيعود من واشنطن بالهدية الكبرى والتاريخية التي قدمها له الرئيس الأميركي، لكي تشكل له حبل الإنقاذ في مواجهة معسكر الجنرالات، الذين يتفوقون عليه وفق استطلاعات الرأي، لكنه انغمس حتى اذنيه في النقاش الحاد الدائر بشأن كيفية التعامل مع غزة. لا شك أن ما حققه نتنياهو من إنجازات كبرى، تجعله في مقام بن غوريون، من حيث أنه يقود المرحلة الثانية من المخطط الصهيوني الاستراتيجي، التوسعي، لكن من منظور اليهود الإسرائيليين فإن الأمن الداخلي هو الذي يحظى بالأولوية.
السياسيون المتنافسون على السلطة والنخب هم فقط من يدركون أهمية ما ينجزه نتنياهو، لكنهم، يتعمدون تجاهل ذلك، أو التقليل من أهمية تلك الإنجازات، بسبب جشعهم وسباقهم على السلطة، أما المستوطنون فإن أمنهم يفوق، كل تلك الإنجازات.
الصاروخ الذي سقط على منطقة هشارون شمال تل أبيب، سقط عملياً في حلق نتنياهو، حيث أرغمه على قطع زيارته الاحتفالية للولايات المتحدة، ثم أدخله في عملية جراحية دقيقة، تفتقر إلى ضمانات السلامة.
بغض النظر عمن أطلق الصاروخ، وعمن يقف خلف إطلاقه، وعن الدوافع فإن ذلك الصاروخ أحدث إرباكاً شديداً في المشهد العام الإسرائيلي، والإسرائيلي الفلسطيني. إذا صمت نتنياهو وواصل معالجاته المعهودة مع قطاع غزة، يكون قد سلّح معارضيه، بالمزيد من ذخيرة التحريض التي أوصلت غابي أشكينازي، إلى حد اتهامه بالمسؤولية عن تآكل قدرة الجيش على الردع، وفشل سياسته في التعامل مع حركة حماس ، التي أخضعته لحساباتها.
أما إذا بادر إلى القيام برد لن يكون إلاّ انتقامياً، طالما أنه يجد في استمرار الانقسام ذخراً استراتيجياً، فإن ذلك قد يجر إلى ردود فعل من قبل الفلسطينيين بإطلاق الصواريخ، وإلحاق خسائر، الأمر الذي سيضعه في موقع الفاشل تماماً، ويؤثر سلبياً على شعبيته. بين هذه وتلك، وفي انتظار دعوة مسيرات العودة إلى مليونية صاخبة في ذكرى يوم الأرض ، فضلاً عن تنشيط ما يسمى بالوسائل الخشنة، يدير نتنياهو مشهداً مسرحياً، يأمل من خلاله أن  يظهر باعتباره رجل المشهد الوحيد، تصميم المشهد ينطوي على تصعيد كلامي بإلقاء المزيد من التهديدات فارغة المضمون، وعقد اجتماعات تقييم مع المستوى العسكري والأمني وبدون دعوة الكابينت المصغر، وتجنيد ألوية من الجيش وأعداد كبيرة من الدبابات على حدود قطاع غزة. يغطي كل هذه الإجراءات عمليات قصف جوي لعديد المواقع التابعة للمقاومة، معظمها مناطق فارغة، أو تعرضت لقصف سابق، ولا يصاب خلالها سوى أقل من عدد أصابع اليد الواحدة من الفلسطينيين. يستطيع نتنياهو أن يسوق على مواطنيه أنه قام بتدمير منشآت ومرافق وأنفاق ذات أهمية استراتيجية، لكن هذه الرواية لا تمر على المتنافسين على المقاعد.
الوفد الأمني المصري الذي تواجد في تل أبيب في هذه الأثناء، بادر كالعادة، للعمل على محاولة ضبط التصعيد، وعدم السماح بتدهور الأوضاع نحو تصعيد العدوان على غزة، وعاد ليحيي تفاهمات التهدئة التي لم يلتزم بها نتنياهو، وتمكن من تحقيق وقف لإطلاق النار أعلنت الفصائل قبولها له، لكن إسرائيل لم تقابل ذلك بإعلان مماثل.
مصادر الفصائل تتحدث عن تفاهمات، يحملها الوفد الأمني المصري من شأنها أن تحقق تهدئة نسبية، مدفوعة «الثمن»، من قبل إسرائيل، لكن مثل هذه التفاهمات إن لاقت قبولاً من قبل نتنياهو فإنها ستعود وتذخر أسلحة المعترضين على هذه السياسة.
يبدو أن نتنياهو يحاول المراوغة واستنزاف الوقت، والضغط من أجل أن لا يكون يوم الثلاثين من آذار، يوماً لتصعيد الوسائل الخشنة، ما يعني أنه يقدم وعوداً، وفقط وعودا، بالموافقة على التفاهمات، بعد أن يثبت الفلسطينيون التزامهم بالتهدئة.
في الحقيقة، فإن نتنياهو يحاول أن يحصل على صيغة «هدوء مقابل هدوء» لأنه لم ينجح في إسكات معارضيه، حين لم يقدم للفلسطينيين شيئاً خلال عام كامل منذ انطلاق مسيرات العودة، فكيف إذا وجد نفسه اليوم مضطراً لأن يقدم شيئاً؟
الفلسطينيون في غزة، هم أيضاً عالقون، فلقد لدغوا من جحر نتنياهو مرات عديدة، حيث استجابوا لدعوات التهدئة ولكن بدون ثمن يكفي للحديث عن نجاح مسيرات العودة في كسر الحصار.
سيكررون هذه المرة، ما فعلوه سابقاً، فهم ليسوا في وارد التصعيد الذي قد يجرّ الأوضاع إلى عدوان واسع على القطاع، وفي الوقت ذاته لا يجدون خطاباً مقنعاً للداخل الذي يغلي بسبب استمرار تدهور الأوضاع المعيشية لسكان القطاع. هي لحظة دقيقة جداً بالنسبة للفصائل التي إن لم تنجح في الضغط على نتنياهو من أجل الالتزام بتفاهمات مقنعة في هذا الوقت، فإن هذا الأمل سيتأجل لبضعة أشهر، ريثما يستقر الوضع في إسرائيل بعد الانتخابات. في المحصلة فإن ما يدور على الساحة ليس أكثر من دوران لطاحونة الماء، فلا نتنياهو قادر على أن يحصل على معادلة هدوء مقابل هدوء، تخفف عنه الانتقادات ولا الفصائل قادرة على تحمل استمرار الوضع، بدون حلول معقولة تخفف من وطأة الأوضاع المتردية للناس.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد