ثمة استنتاجات وحلول خاطئة، ناجمة عن قراءة خاطئة لدوافع وطبيعة وإمكانية توقف أو ظهور حراك «بدنا نعيش»، والوسائل المستخدمة في مواجهته من قبل سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة .
لا يكفي أن يصدر بيان عن حركة حماس ، يضع الأمر في سياقات عامة لما يواجهه الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، والتعبير عن الأسف، وحتى الاعتذار من الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، والاستنتاج بأن الشعب نجح في محاصرة وإفشال ما تدّعي حماس أنه مؤامرة سياسية أمنية، من قبل السلطة وحركة فتح. البيان طبعاً، أشار إلى اهتمام الحركة بتحسين الأوضاع المعيشية لسكان القطاع، لكنه رهن ذلك بالعمل على خط إرغام إسرائيل على كسر الحصار، الأمر الذي لم يحصل حتى في الذكرى السنوية الأولى لمسيرات العودة، نظراً لطبيعة السياسة والمخططات والأهداف الإسرائيلية.
أوساط إسرائيلية عديدة عبّرت عن اغتباطها لما شهدته شوارع قطاع غزة خلال الأيام الأربعة التي استغرقها الحصار، فبالنسبة لإسرائيل أنه يوم السعد، أن تجد الفلسطينيين يأكلون بعضهم البعض، ويستنزفون قوتهم في صراعاتهم الداخلية.
صحيح أن ما جرى لا يمكن أن يحرف بوصلة الصراع مع الاحتلال، الذي لا يترك فرصة للفلسطينيين حتى للتنفس، ويواصل هضمه للحقوق والأرض، ويوجه كل أسلحته الفتاكة في وجه الإنسان الفلسطيني. فالمواجهة أمر اضطراري واختياري في الوقت ذاته، ولكن السؤال هو إذا لم نعتمد في هذه المواجهة على المواطن فعلى ماذا نراهن؟
ما جرى هو مواجهة بالقوة المفرطة للشباب الذي يذهب كل يوم جمعة إلى الحدود، قبل أن تبدأ مكبرات الصوت في دعوة الناس للمشاركة في مسيرات العودة، وهو مواجهة للصحافيين، الذين يتعرضون للشهادة والإصابة وهم يغطون الأحداث وينقلون وقائعها إلى العالم الخارجي. ومع الأسف لم تميز الهراوة الثقيلة، بين هؤلاء وبين نشطاء حقوق الإنسان، الذين يدافعون كل الوقت عن كل من يتعرض للانتهاكات في الضفة وفي غزة بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية.
يترتب على المسؤول المباشر أن يقرأ بعمق وأن يعترف بمسؤوليته أو بما يقع عليه من المسؤولية إزاء واقع وأبعاد ظاهرة الفقر والبطالة، وسوء المعيشة، الذي يسود المجتمع بما في ذلك فئة واسعة من موظفي وأعضاء وأنصار حركة حماس، الذين يحصلون على 40% من مرتباتهم بعد أشهر من استحقاقها.
بعيداً عمّن يتحمّل المسؤولية أو القدر الأكبر من المسؤولية عن هذا الواقع، الذي يتحكم فيه استمرار الانقسام الفلسطيني، فإن أبسط مقوّمات ومتطلبات تصعيد مقاومة الاحتلال، هو توفير الحدّ الأدنى للمواطن الذي عليه أن يصمد على الأرض، ويقدم التضحية، وأيضاً توفير الحد الأدنى من الشعور بالكرامة الشخصية والوطنية، والحماية.
سؤالنا هو: هل انتهت المؤامرة التي تتحدث عنها حماس، والجمهور ليس على علم بتفاصيلها؟ إذا كان الجواب نعم فالسؤال هو: ماذا إن ظهر الحراك مرة أخرى تحت العنوان ذاته؟
لقد أكد نشطاء الحراك عبر بيان ظهر على وسائل الاتصال، أنهم لا يستهدفون حماس، ولا يستهدفون السلطة، وأنهم سلميون ومستمرون، الأمر الذي ينفي الأبعاد السياسية والتنظيمية عن الحراك، ولكن ذلك يعني أيضاً أن الناس قد تجاوزت حاجز الخوف.
هنا ارغب في الإشارة إلى بعض السلبيات التي نجمت عن المشهد المأساوي الذي يدعو منظمة العفو الدولية، لإدانة استخدام وسائل القمع ضد الشبان. لكن الأهم هو أن هذا المشهد تزامن مع اجتماعات للمجلس العالمي لحقوق الإنسان، لمناقشة تقرير تقصي الحقائق بشأن جرائم حرب ارتكبتها وترتكبها إسرائيل بحق نشطاء مسيرات العودة. غداً الجمعة سيتم التصويت على التقرير، لكن ثمة من استغل المشهد في غزة لحرف الأنظار، وتقديم الفلسطيني على أنه يرتكب جرائم بحق شعبه، بهدف تخفيف الجرائم التي يرتكبها الاحتلال.
إلى ذلك، أي خطاب وأي رسالة ومشهد، يصدر عن ما جرى في شوارع غزة، بينما يخوض أسرانا الأبطال معركة باسلة ضد القمع الاحتلالي وأي مبرر يوفره هذا الخطاب للاحتلال لكي يبطش بمناضلينا؟
واقعياً سنعود ونؤكد أن نجاح أو فشل الحراك الاجتماعي، فإن ذلك لن يكون مقرراً فيما يتعلق بملف إنهاء الانقسام، فكما لاحظنا أن ما جرى، قد أدى إلى تأجيج الصراع، وتعميق الانقسام.
وإذا كنا نأمل أن يشكل بيان حماس واعتذارها، توفر قناعة راسخة، بعدم جدوى استخدام الوسائل الأمنية والقمعية في معالجة هذه الظاهرة وغيرها مما قد يتحرك في الوسط الشعبي، وأن يكون ذلك ناجماً عن وقفة نقدية عميقة للآثار السلبية المترتبة على الحلول الأمنية، فإن ثمة ما ينبغي عمله.
دعونا نتجاهل ما لا يمكن تجاهله، باعتبار أن إنهاء الانقسام هو الحل الوطني الوحيد، لمعالجة كل ما يواجهه الشعب الفلسطيني من مخاطر، سواء تتعلق بالحقوق والقضية الوطنية، أو ما يتعلق منها بقضايا المجتمع، إذ لا نتوقع أن يؤدي هذا الحراك إلى تغيير القناعات الراسخة وكل ما نأمله أن لا يؤدي إلى تدهور أكبر في مناخات الصراع والانقسام، إلى حين تنجح مسيرات العودة في إرغام إسرائيل على التراجع عن حصارها على القطاع، وهو أمل على الأرجح أنه مؤجل لما بعد الانتخابات، فإن على حماس أن تتخذ جملة من القرارات التخفيفية عن الناس. يتم ذلك في إطار التفاعل الجاد والصادق مع فصائل العمل الوطني ومع المجتمع المدني ولإعادة بناء الثقة التي اهتزت كثيراً بين كل هذه الأطراف. يترتب على سلطة الأمر الواقع أن تتقدم بقرارات عملية معلنة لتخفيض الضرائب والرسوم، التي تفرضها على البضائع والأنشطة، والناس في غزة يعرفون الفارق بين أسعار البضائع في بلاد المنشأ وبين أسعارها في السوق. لا تكفي المواساة بالكلام فالجريح يحتاج إلى دواء، وربما عمليات جراحية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية