مرت أربع سنوات على اندلاع ثورات الربيع العربي التي ربما كان أشهرها ثورة 25 يناير في مصر التي صادفت ذكراها يوم أمس حيث شهدت سدة حكم السياسة المصرية خلالها أربع شخصيات (ثلاث رؤساء منهم واحد مؤقت ورئيس للمجلس العسكري). المؤكد ان لا شيء اسمه الآن «ربيع عربي» لأن عملية التحول الافتراضية التي تجلبها كلمة ربيع إلى الأذهان لم تحدث بل إنها ما زالت مستمرة. وهي باستمرارها تقول إن ما يحدث ليس عمليات تحول بل هو وجه آخر للصراع. وليس من المؤكد ان الصراع هو بين قوى ديمقراطية تحررية وقوى ديكتاتورية، حيث إن بعض المجموعات المتقاتلة في سوريا مثلاً تعيد دفة التاريخ قروناً سحيقة إلى الوراء، كما أن الصراع في مصر أيضاً ليس بين القوى الثورية والدولة بل هو صراع على استعادة الحكم من قبل الإخوان المسلمين.


سيكون من الصعب في ظل هذه الضوضاء تناسي المقاتلين الديمقراطيين الحقيقيين الذي خرجوا بعفوية وكانوا جاهزين لدفع حياتهم ثمناً لعمليات التحول والدمقرطة، لأن هؤلاء رغم كل شيء ما زالوا موجودين وإن تراجعوا للخلف أمام ضوضاء التفجيرات والاقتتال المرير. لكن لطالما كانت الحال كذلك فإن قراءات متأنية لحالة الربيع العربي تكشف عن خيبات أكثر مما ترمي في جيوبنا من أمل وترسم على وجوهنا من سعادة.


يثير الوضع العربي السؤال الكبير في أدبيات التحول الديمقراطي حول المفاضلة بين التغير الثوري الجذري الذي يتحقق ضربة واحدة والتغير التدريجي المتأني الذي يتم عبر إصلاحات متراكمة تقود في نهاية المطاف إلى عمليات إزاحة لبنى النظم السابقة وتحل مكانها البنى الجديدة. من المؤكد أن ما حدث في الحالة العربية وبعد خروج المتظاهرين في تونس والقاهرة للشارع مطالبين بتغير النظام، كان تغييراً ثورياً سعى ومن خلال ضربة واحدة إلى القضاء على النظم السابقة وإحلال قوى ثورية (افتراضاً) مكانها. وبعد السنوات الأربع التي مضت من عمر هذا الربيع، فإن المؤكد أن التغير الفوري العنيف لم يفلح في استجلاب الديمقراطية من الغابات الكثيفة للسلطة القمعية، بل إنه أغرق البلاد في بعض الحالات كما هي الحال في سوريا وليبيا واليمن وإلى درجة أقل مصر في موجات لامتناهية من العنف.


والمؤكد أن القاعدة التي تقول إن مسار التغير من فوق إلى أسفل او من أسفل إلى فوق تظل صالحة لكل زمان ومكان بوصفها قانوناً عاماً. لكن مثل كل القوانين العامة فإنها لا تقدم إجابات تفصيلية حول كل شيء. في الحالة العربية كانت ال حماس ة زائدة والرغبة في الانتقام من النظم السابقة عالية بل ممزوجة ببعض التشفي. ولما كان لكل نظام رجال وعزوة، ولما كانت تلك الأنظمة نتاج تراكم حقب من الحكم الاستبدادي، فإنها لم تكن بلا جذور سواء في المجتمع أو في مؤسسات الدولة. كان واضحاً أن عمليات التطهير لن تكون ناجعة لأنها كانت تعني أنها ستتم ليس ضد النظام بل ضد الدولة - كما حدث في ليبيا - وبالتالي ستنهار الدولة، وفي أحسن الحالات ضد قسط واسع من المجتمع كما حدث في مصر إبان حكم الإخوان وبالتالي يتعارض النظام الجديد مع مواطنيه - الذين لا يحبهم ربما لكنه مسؤول عنهم.


إن ما اقترحه الكثير من الباحثين في سياقات مختلفة اكثرها أميركية لاتينية حيث ولدت نظريات التحول الديمقراطي، هو المزج ربما بين خيار التغير الفوري والتغير التدريجي. فالثورة الشعبية العارمة ضد نظام القمع تعطي شرعية لعمليات التحول التدريجية، بل هي أيضاً تكون حامية لهم من ضمان عمليات وضوابط وإجراءات أمان تجعل الارتداد للخلف أمراً غير ممكن.


الذي حدث في الحالة العربية أن الدولة وجدت نفسها تقف على مفترق طرق عليها أن تختار أحد الطريقين: إما أن تنهار الدولة بفضل عدم نجاعة الإجراءات التي تتخذها النظم الجديدة، وإما أن تجد نفسها تتجه إلى دولة قمعية من نوع آخر وهذه المرة باسم الثورية الجماهيرية. وفي الحالتين فإن الاختيار كان صعباً. في بعض الحالات وجدت الدولة نفسها تقاتل حتى لو كان نتيجة القتال دمار وانهيار الدولة كما هي الحال في سورية.

 وفي الحالات التي لم تنجح الجماهير فيها بإحداث تغير حقيقي فقد ظل السلاح سيد المشهد وبالتالي تحولت الثورة إلى فوضى كما هو الحال في اليمن وليبيا. اما في الحالة المصرية فإن حالة الانقسام التي أحدثها حكم الرئيس السابق محمد مرسي ومحاولة تجنيد الدولة الجديدة لخدمة أجندات حزبية على حساب مفهوم التعدد والتنوع كل ذلك قاد إلى التقاء رغبة الدولة في حماية نفسها من التحول مع رغبة شريحة الجماهير التي شعرت بأنها تخسر جراء عملية التغير مع شعور الثوريين الحقيقيين بالانكسار من مآلات ثورتهم لتقود هذه الرغبات والمشاعر إلى تغيرات جوهرية تعيد الدولة بنخبة جديدة إلى سدة الحكم.


ما لم يكن التغير مصحوباً بأجندات تنمية اقتصادية وصناعية تنتشل البلدان العربية من حالة التبعية الاقتصادية والمديونية والشحدة إلى الرخاء والتطور فإن الفقر لا يصنع ديمقراطية، حيث إن الأخيرة وحين يتساوى المواطنون وتتوقف سرقة الثروات واحتكار المصادر الطبيعية من شأنها أن تدفع باتجاه التنمية الشاملة. وإن لم يتحقق ذلك فإن الربيع العربي سيتحول - وربما قد تحول فعلياً - إلى صراع آخر على السلطة بعبارات ثورية وتغيرية، ولن يقود إلى ديمقراطية حقيقية. يضاف إلى ذلك الحاجة، وفي قلبه ربما التحرر من التبعية السياسية وتفعيل الخطاب الوطني الحر الهادف إلى صقل شخصية الدولة الوطنية بطريقة سليمة ومتزنة. بالطبع بعيداً عن الشعارات والحماسة الزائدة. إن تكامل الأجندة التنموية مع عملية تحرر سياسي واقتصادي وحده يمكن له أن يقود إلى ربيع عربي حقيقي وليس إلى صراع على السلطة. هل ضاعت الفرصة! لا يمكن لأربع سنوات أن تجزم لنا بالإجابة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد