الضريرُ المبدِع .. دافعُ الفضول والقدرُ المحتوم
قبل الإصابة بشهرين، دفع الفضول طاهر عودة لدخول جمعية المكفوفين العربية في البلدة القديمة من القدس ، برفقة صديقه أحمد، وقفا للحظات أمام عتمة الجمعية، وقد انبهرا بالطريقة الاحترافية التي يقوم بها المكفوفون في صناعة المكانس الخشبية، وتقطيع الخشب والخيزران .. حتى جاء صوت من الخلف:"رجاءً غادرا المكان".
غادر طاهر الجمعية، ولم يكن يتوقع ولو للحظة بأنه سيضطر لدخولها في يومٍ من الأيام، ويصبح عضواً فيها.
في العام 1990، أصيب عودة برصاصة طائشة في رأسه لتخرج من الجهة المقابلة، أثناء توجهه لعمله في صالون الحلاقة الذي يملكه خاله، وبعد عامٍ واحد من تركه للمدرسة.
في ذلك العام اقتحم مستوطنون ساحات المسجد الأقصى بحماية جنود الاحتلال، وأمطر الجنود المصلين بزخات من الرصاص، حيث استُشهد 22 مواطناً وأصيب العشرات، بينهم عودة.
فقدَ عودة (44 عاماً) بصره، وبقي حبيس منزله 11 شهراً، لم يتقبل الإصابة في بادئ الأمر، وظن أن الحياة قد انتهت، ومع الأيام بدأ عودة يعود ليتأقلم مع الحياة شيئاً فشيئاً، وفي أحد الأيام أقنعه والده بالانضمام للجمعية.
دخل عودة الجمعية، ولكن هذه المرة لم يدخلها بداعي الفضول، حيث يقول عودة وهو متزوج ولديه طفلان:" دخلت الجمعية وكنت أعلم علم اليقين بأن الأمر سيكون صعباً، تغلبت كثيراً وواجهت الكثير من الصعوبات، وبدأت أواصل الليل بالنهار لأتمكن من إنجاز العمل بالشكل اللائق والمطلوب، إلى أن أتقنت المهنة، كيف لا وأنا أعمل في الجمعية منذ 29 عاماً.
وتابع:" لا أزال إلى اليوم أتذكر المرة الأولى التي صنعت فيها أول مكنسة خشبية وحدي، كنت فرحاً جداً لأول عمل قمت به، حينها بدأ الجميع بالتصفيق لي، شعرت بأني صنعت شيئاً عظيماً، كان الأمر صعباً، واستغرقت وقتاً طويلاً في صناعتها".
"كان من الصعب تقبلي لصغر سني، وكان الجميع يخبرني بأني صغير، ولن أستطيع إنجاز المهام بالشكل المطلوب، الأمر الذي دفعني لتطوير نفسي"، يقول عودة.
وأضاف:" أشعر بفخر أني أعمل في الجمعية، وأمارس حياتي بشكل طبيعي، كأي إنسان في المجتمع، ولا فرق بيننا، آخذ نسبة على العمل الذي أقوم به، لكن هذا أفضل من الجلوس في البيت".
وأردف عودة:" يعرفني الجميع، سواء أهل سلوان أو البلدة القديمة، الجميع يتحدث عني، وعن مهارتي في العمل، وعملي فرَض احترام الجميع".
وفي كلامه عن طريقة عمله قال:" نقوم بعمل 35 نوعاً مختلفاً من الفرش والمكانس المصنوعة من الخشب، وشعر النخيل، وقشر جوز الهند، أنا متأكد بأنه من الصعب أن يصدق أي زائر للجمعية بأن الصناعات اليدوية الموجودة هي صناعة مكفوفين، الجميع يشيد بصناعتنا وإتقاننا في العمل، حتى الزوار من القدس وغيرها يتفاجأون حين يعلمون بأن الصناعات الموجودة تعود للمكفوفين".
وأشار إلى أن صناعة المكانس تمر بمراحل، ويقتضي إنتاجها وقتاً، خاصةً وأنهم يعتمدون على حاسة اللمس في عملهم، كما أن إنتاج المكانس والفرش بمختلف أنواعها يتم بصناعة يدوية، وهي أفضل من صناعة الماكنات، بحيث يتم استخدام المواد الطبيعية 100% في العمل، بحسب وكالة "وفا" الرسمية.
وعن الصعوبات، يقول عودة:" نظرة الناس السلبية تجاه الأشخاص ذوي الاعاقة؛ لأنه لا يوجد وعي كافٍ عند الجميع في هذا الجانب، لكن هذه النظرة غالباً ما تتلاشى بفعل عاملي الخبرة والمهارة، فضلاً عن الصعوبات التي نواجهها في الحركة والتنقل.
واستطرد عودة قائلاً:" علاقتي مع زملائي قوية جداً، تعوّدت على العمل معهم، لا يمر يوم من دون أن نضحك، نتمازح مع بعضنا، والزيارات بشكل دائم بيننا، نشعر خلال الجلسة وكأننا نرى بعضنا البعض، وإذا جاء ضرير جديد للجمعية، نقوم بمساعدته وتدريبه حتى يصبح متميزاً في الأداء.
جديرٌ بالذكر أن جمعية المكفوفين العربية تأسست عام 1932 في القدس، وكان تأسيسها باكورة نهضة للمكفوفين في هذه البلاد، وقد سجلت في وزارة العمل التابعة لسلطة الانتداب البريطاني على فلسطين آنذاك تحت رقم (105)، واحتضنت العشرات من المكفوفين خلال أكثر من 87 عاماً، ليصل عدد أعضائها اليوم إلى 150 عضواً، ويعمل في صناعة المكانس والفُرش يدويّاً 25 كفيفاً، حيث تعمل الجمعية على تشغيل المكفوفين وتصريف منتوجاتهم للجمهور عن طريق إنشاء مصانع ومعارض لمنتجاتهم.