تعاني السلطة الفلسطينية هذه الايام من ضائقة اقتصادية خانقة , وذلك اثر قيام اسرائيل باحتجاز اموال الضرائب التي تجبيها لصالح السلطة الفلسطينية , وذلك كخطوة عقابية على توجه السلطة الى المحكمة الجنائية الدولية , علما ان هذا القرار بمعاقبة السلطة وشعبها الفلسطيني مخالف لاتفاق اوسلو واتفاق باريس الاقتصادي الموقعين من الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي , كما انه مخالف لقرارات الشرعية الدولية , حيث لا يجوز تحت بند او مسوغ قانوني ان تقوم دولة باحتجاز اموال تجبيها لصالح دولة او سلطة اخرى .

وقد سبق لاسرائيل وان احتجزت اموال الضرائب الفلسطينية اكثر من مرة كما فعلت عقب تشكيل اتفاق الوفاق الوطني , ولكن تحت ضغوط دولية اضطرت اسرائيل الى رفع الحجز واعادة تمويل تلك الاموال الى خزينة السلطة الفلسطينية.

ومعلوم ان حجز اسرائيل تلك الاموال التي تشكل ستين في المئة من موازنة الحكومة الفلسطينية , من شأنه ان يجعل الحكومة الفلسطينية عاجزة عن دفع رواتب اكثر من مئة وخمسين الفا من موظفيها , ما اضطرها هذا الشهر الى التأخر قرابة اسبوعين من الوفاء بالتزاماتها تجاه اولئك الموظفين , ولم تستطع ان تدفع لهم الا ستين بالمئة من تلك الرواتب , على ان تدفع الباقي في حال تمكنت من توفير الاموال اللازمة .

ويذكر في هذا المجال ان الفاتورة المالية الشهرية للحكومة الفلسطينية تبلغ ثلاث مئة مليون دولار شهريا , من مبلغ مئة وثلاثين مليون دولار من اموال الضرائب التي تجبيها اسرائيل لحساب السلطة , اضافة الى الايرادات المحلية لموازنة السلطة والتي لا تزيد على ستين مليون دولار شهريا . اما الباقي فيأتي من المساعدات الخارجية , والذي يزيد من المشكلة تعقيدا تهديد الكونغرس الاميركي بوقف المساعدات المالية للسلطة البالغة سنويا اربع مئة مليون دولار , وذلك تحت ضغوط من حكومة اسرائيل واللوبي الاسرائيلي في واشنطن خاصة منظمة "ايباك " اليهودية.

ولولا ان المصارف الفلسطينية مدت يد العون والمساعدة للحكومة الفلسطينية لما تمكنت حتى من صرف الستين بالمئة من رواتب الموظفين , ولا بد لنا هنا ان نقدم جزيل الشكر لهذه المصارف التي استجابت لطلب الحكومة وبسرعة غير معهودة , كما قال وزير المالية شكري بشارة , وهذه مبادرة تستحق كل التقدير والاعجاب , كونها تعكس روح الانتماء الوطني والتكافل بين ابناء الشعب الفلسطيني الواحد .

والامر المؤسف ان حكومة اسرائيل تستغل ما تجبيه من اموال لصالح السلطة الفلسطينية , من اجل الضغط على القيادة الفلسطينية ولي ذراعها وحملها على تبني سياسات لا تتلاءم والمصلحة العليا للشعب الفلسطيني, وقد ثبت فشل هذه السياسة الاسرائيلية مسبقا , حيث ان تلك الاجراءات العقابية المالية لم تجعل السلطة الفلسطينية وقيادتها تخضع للاملاءات والضغوط الاسرائيلية .

ورغم ان تلك الاجراءات تخنق الاقتصاد الفلسطيني , وتؤثر سلبا في جميع فئات المجتمع الفلسطيني بما فيه المصارف الفلسطينية والأسر محدودة الدخل والقطاع الخاص اضافة الى الموظفين .

وقد لاقت الاجراءات العقابية المالية الاسرائيلية ضد السلطة الفلسطينية رفضا عربيا ودوليا وحتى اسرائيليا , فقد اوصى جهاز الامن الداخلي الاسرائيلي " الشاباك " في تقرير رفع مؤخرا الى رئيس حكومة اسرائيل بنيامين نتنياهو بعدم حجز اموال الضرائب الفلسطينية , وشدد على انه من الافضل لاسرائيل ان تسارع الى تحويل الاموال الى السلطة الفلسطينية للحيلولة دون انهيار هذه السلطة , لأن انهيارها ليس من مصلحة اسرائيل , كما ان الاتحاد الاوروبي ندد بالخطوة الاسرائيلية , ورأى فيها خرقا للاتفاقات الموقعة بين السلطة وحكومة اسرائيل .

كما ان الجامعة العربية دانت هذا القرار الاسرائيلي باحتجاز اموال الضرائب الفلسطينية , باعتبار ذلك القرار عقاب جماعي للشعب الفلسطيني , اضافة الى انه عبث بالقوانين والالتزامات الدولية , وكان على الجامعة العربية الا تكتفي بادانة القرار الاسرائيلي هذا فقط بل كان عليها اولا ان تدعو اعضاءها من الدول العربية الى المسارعة الى تنفيذ شبكة الامان المالية للسلطة الفلسطينية , والبالغة مئة مليون دولار شهريا , علما ان هذه الشبكة قررتها قمة بغداد العربية التي انعقدت في العاصمة العراقية في التاسع والعشرين من شهر آذار عام 2012 , واكدت عليها القمم اللاحقة التي عقدت في العاصمة السعودية الرياض وكذلك القمة التي عقدت في الكويت .

ولكن للأسف فان الدول العربية لم تلتزم بتقديم هذا المبلغ الزهيد والقليل الذي التزمت به كشبكة امان مالية للسلطة الفلسطينية , رغم مرور قرابة ثلاث سنوات على تبنيه. كما انها لم تلتزم بتقديم ما وعدت به قمة سيرت التي عقدت في ليبيا عام 2010 والتي تعهدت بدفع مبلغ خمسمئة مليون دولار لدعم القدس والمقدسيين والمحافظة على المسجد الاقصى .

وتستطيع الدول العربية ان ارادت , تقديم شبكة الامان المالية هذه على وجه السرعة , حيث انها تمتلك احتياطات ضخمة من الاموال في البنوك الغربية , علما ان دعم العرب للشعب الفلسطيني ليس منة ولا تفضلا بل واجب , ذلك لأن هذا الشعب بصموده يدافع عن مقدسات العرب والمسلمين , ويحافظ على عروبة المدينة المقدسة ومسجدها الاقصى المبارك , الذي هو ليس للشعب الفلسطيني وحده , بل لكل العرب والمسلمين.

ولكن والأمر المحبط ان العرب يبذرون الاموال الطائلة في وجوه لا فائدة ولا نفع فيها , وفي ذات الوقت الذي يجحمون فيه عن تقديم يد المساعدة للشعب الفلسطيني , وكذلك لا يوفون بما التزموا به من تقديم شبكة امان مالية , متناسين قوله تعالى :" واوفوا بالعهد ان العهد كان مسؤولا " . في الوقت الذي يغدق فيه الاثرياء اليهود في العالم الاموال الطائلة لصالح المستوطنين وشراء عقارات .

ان الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها السلطة الفلسطينية بحاجة الى حلول جذرية , خاصة وان الحكومة الفلسطينية عاجزة عن توفير الموارد المالية الضرورية لسد العجز في موازنتها , وهذا العجز مستمر منذ سنوات عديدة , ولا شك ان الاجراءات الاسرائيلية تشكل عائقا امام تحقيق اي تقدم اقتصادي , وتتمثل تلك الاجراءات فيما تفرضه اسرائيل من قيود على حرية التنقل والحركة , ومنع البضائع الفلسطينية من الوصول الى الاسواق الخارجية , والقيود المشددة التي تفرضها على الفلسطينيين لمنعهم من استغلال الموارد الطبيعية في الارض الفلسطينية , كذلك فان حركة حماس برفضها تقديم فواتير المقاصة على البضائع التي يستوردها قطاع غزة عبر اسرائيل يؤدي الى خسارة حكومة السلطة الفلسطينية مبالغ طائلة , حيث ان تلك الفواتير ما زالت متراكمة , وتذهب لصالح الحكومة الاسرائيلية بدلا من ان تذهب الى خزينة السلطة الفلسطينية.

ان حل الأزمة المالية الفلسطينية انما هي تعود لامور خارجة عن قدرة السلطة الفلسطينية , وقد قامت الحكومات الفلسطينية بعدة اصلاحات مالية , ولكنها لم تحل الضائقة المالية , ولا شك ان حل هذه الأزمة يقتضي اجراءات عربية ودولية .

فمن الجانب العربي مطلوب من الجامعة العربية ان تدعو الدول العربية الى الوفاء بالتزاماتها المالية بشكل منتظم , وذلك بانشاء صندوق مالي يمول من شبكة الامان المالية العربية التي قررتها الجامعة العربية على مستوى القمم العربية , وكذلك ان يحول الى هذا الصندوق مبلغ الخمسمئة مليون دولار التي قررتها قمة سيرت في ليبيا لدعم القدس والمقدسيين .

واما دوليا فان من واجب الولايات المتحدة اولا الضغط على الحكومة الاسرائيلية لرفع الحجز على اموال الضرائب الفلسطينية , وذلك لكي تتمكن الحكومة الفلسطينية من الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه ابناء الشعب الفلسطيني , لأن استمرار هذه العقوبات الاسرائيلية من شأنه ان يؤدي الى عجز السلطة الفلسطينية عن القيام بواجباتها , وبالتالي قد يصبح انهيار السلطة الفلسطينية امرا واردا , وهذا ليس في مصلحة اسرائيل , التي سيكون عليها ان تتحمل مسؤولية اعالة هذه الملايين من ابناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة , عدا عن مواجهة الفوضى الامنية التي ستضرب بلدات وقرى ومخيمات الضفة الغربية , في حال انهيار السلطة وتفكك اجهزتها الامنية .

وفي ذات الاطار فان على الولايات المتحدة ايضا ان تمنع الكونغرس من وقف المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية , لأن بقاء السلطة مصلحة اميركية ايضا بقدر ما هو مصلحة فلسطينية عربية , والذي لا شك ان اسرائيل ستفرج في النهاية عن اموال الضرائب الفلسطينية , لأن المجتمع الدولي بأسره وكذلك اسرائيل ذاتها غير معنيين بانهيار السلطة , وكذلك الدول العربية , ولكن المهم الآن ان تبادر الدول العربية , وعلى وجه السرعة الى تنفيذ شبكة الامان المالية للسلطة الفلسطينية .

ولكن يبقى الحل النهائي لهذه الأزمة المالية المتجددة بتحقيق سلام شامل ودائم من خلال اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في الأراضي الفلسطينية بحدود عام 67 . وعند ذلك تستطيع هذه الدولة المستقلة ان تضع حلولا جذرية ونهائية لهذه الأزمة والضائقة الخانقة . والله الموفق

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد