غزة تلفظ عقلها

غزة / سوا / هاجر استشاري جراحة القلب المفتوح د.مروان صادق من قطاع غزة نهاية شهر أكتوبر من العام المنصرم، للبدء في العمل مع إحدى المستشفيات الجامعية في النمسا.


وجد "صادق"، البالغ من العمر 49 عاما، نفسه مضطرا للهجرة وترك غزة في ظل العديد من الظروف السلبية التي لعبت دورا أساسيا في اتخاذه لقرار الهجرة، من أهمها الانقسام السياسي الذي تعاني منه فلسطين منذ نحو ثماني سنوات.


الجرّاح الأشهر في قطاع غزة، قال لـ"المونيتور" الذي تواصلت معه عبر شبكة الانترنت :"ما دفعني لمغادرة قطاع غزة هو حالنا الداخلي الذي ترتّب عنه عدم الاستقرار الإداري داخل المؤسسة الصحية، حيث أصبح لا يوجد من يقود الدفة بحزم ويوجهّها للأحسن والأنسب، وأصبحت الأمور تدار فقط من منطلق تخفيف المصائب وليس حل المشاكل، بالإضافة إلى انعدام رؤية واستراتيجة للتطوير".


وما بين تلك المشاكل والضائقة المالية التي تمر بها وزارت قطاع غزة وعدم وجود ميزانيات تشغيلية، أضحى الموظفين، وكان الدكتور صادق واحدا منهم، مشغولين بانتظار رواتبهم التي أصبحوا يستلمونها في العام مرة واحد. ما أدى لانعدام الأفق في قطاع غزة.


وتابع د.صادق :"ما زاد الطين بِلة وجود خلاف بيني و بين مؤسسة خيرية عمِلت لصالحها لأكثر من عامين، لكنها لم تسدّد مستحقاتي المالية، بل أنكرتها، لذلك إذا أردت البقاء في غزة عليّ الانحدار إلى الأسفل، وان أتحوّل من مستشار لجراحة القلب إلى شخص همه الوحيد كيف أُطعم أبنائي".


رئيس مجلس إدارة الهيئة المستقلة لحقوق الشباب والمحاضر السابق بالجامعة الإسلامية في غزة بتخصص الهندسة المعمارية والمهندس الوحيد في فلسطين الذي يحمل شهادة الدكتوراه بتخصص التصميم الداخلي والديكور د.رائد العُطل، تعرّض للفصل التعسفي من قبل الجامعة الإسلامية في العام 2014.


وأوضح في حديثه لـ"المونيتور" :"الجامعة الإسلامية فصلت عدد كبير من الأساتذة والمتخصصين بتخصصات نادرة جدا بسبب الأزمة المالية والتراكمات الإدارية الخاطئة التي دفع ثمنها الأساتذة الشباب، ونتيجة لذلك هاجر معظمهم، والبعض يقوم بتحضير نفسه للهجرة، مبررين ذلك بأزمة مالية، والغريب أن المفصولين لا يحصلون على أي حقوق كادخار ونهاية خدمة".


وبيّن أن الأمر لا يتوقّف عند ذلك الحد، بل إن الظروف السياسية لعبت دورا في هجرة الكفاءات، متابعا :"يوجد إحدى القصص التي أعرفها عن قرب، وتتمثّل بأن أستاذا جامعيا كان يعمل براتب شهري يصل لأكثر من ثلاثة آلاف دولار هاجر للعمل والإقامة في النرويج بسبب الانقسام والمشاكل الحاصلة في غزة".


وأشار العُطل إلى أن بعض التقارير تؤكّد أن الآلاف من الشباب الغزّي هاجروا خلال العام المنصرم، من بينهم حَمَلة شهادات عليا، وآخرهم كانت الفاجعة برحيل مجموعة من أطباء جراحة القلب والأعصاب، وفق قوله.


تواصل مراسل "المونيتور" مع العديد من الجهات الدولية والحكومية للحصول على إحصاءات دقيقة لعدد المهاجرين من قطاع غزة خلال العام المنصرم او ما قبله، فيما أكّدت جميعها أنها لم تقم بإجراء أية إحصائية.


وأضاف العُطل :"تواصلت مع محامي كندي وأبلغني أن هناك مئات الطلبات للهجرة من قطاع غزة إلى كندا، وكلهم من العقول والكفاءات، والمعروف أن كندا ت فتح باب الهجرة للكفاءات، وطبعا أنا احد هؤلاء الذين قدّموا للهجرة إلى كندا".


وقال العُطل، البالغ من العمر 37 عاما إن هيئته المتخصصة بمتابعة قضايا الشباب الغزّي وزّعت استبانة في كافة مناطق قطاع غزة لمعرفة رأي الشباب بالهجرة، حيث وجدت أن أكثر من 90% من الشباب المستطلعة آراؤهم يرغبون بالهجرة من قطاع غزة.


على الرغم من الهجرة الواضحة للعقول والكفاءات في قطاع غزة خلال الأشهر القليلة الماضية، إلا أن المؤسسات الحكومية المسئولة عن احتضان الشباب والمبدعين تقلّل من قيمة هذا الأمر.


مدير الإدارة العامة للشباب بوزارة الشباب والرياضة د.محمود بارود قال لـ"المونيتور" إنه ومنذ سبعة أشهر لا ينتظم العمل على معبر رفح ، مشيرا إلى أن الحديث عن هجرة العقول في هذا الظرف يحتاج إلى تدقيق كونه لا يُسمح إلا لذوي الاقامات والمرضى وحملة جوازات السفر المصرية للسفر.


لكن بارود رفض ما أسماه "السياسة الممنهجة" التي تهدف لتفريغ القطاع من الشباب، مبيّنا أن عملية الضغط على الشباب من خلال الحصار وتدمير فرص العمل وإغلاق الأنفاق والمعابر ومن ثم فتحها بشكل مفاجئ أثناء الحرب كان له دورا مباشراً في هذا الأمر.


متابعا :"فتح الأنفاق ومعبر رفح في ظل الحرب والحصار الإسرائيليين يعني ذلك أنهم يريدون تهجير الشباب من القطاع، مما يفسّر أن هناك خطط عربية وإسرائيلية وأمريكية لتفريغ الأوطان".


ويُعد الاحتلال الإسرائيلي وحصاره للقطاع والحروب التي يشنها من فترة إلى أخرى أهم الأسباب الضاغطة لهجرة الشباب والعقول من غزة، وأضاف بارود :"ما حصل من هجرة للأطباء في الفترة الأخيرة ظاهرة لا سيما في ظل الحصار المطبق لقطاع غزة، مما يؤدي مع قلة الموارد وانعدام الحياة وحالة الضجر إلى هجرة العقول ورؤوس الأموال، وهذا ما يريده الاحتلال من أجل تفريغ البلاد من أبنائها".


وبيّن بارود أن السلاح المُتاح بين أيديهم كإدارة مهتمة بالشباب والمبدعين هو "التوعية" لمحاربة ظاهرة الهجرة، مقللا من قيمة ما يُقدّم للمهاجرين في أوروبا رغم سوداوية وسوء الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في غزة.


وتابع :"في الإدارة العامة للشباب شرحنا لهؤلاء الشباب خطورة الهجرة وترك البلد بشكل دائم، لكننا أيّدناهم في البحث عن لقمة العيش، فنحن مع كل إنسان يحاول تطوير قدراته ويريد أن يسلّط الضوء على قطاع غزة ومعاناته، لكننا لسنا مع هجرة أي عقول تريد أن تهرب من البلد وتتنكّر لشعبها وبلدها".


ومع استمرار الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة منذ أكثر من ثمانية أعوام، وبقاء الانقسام والفساد الإداري، وما نتج عنها من ارتفاع أعداد العاطلين عن العمل، يستمر القطاع بلفظ شبابه وكفاءاته للهجرة إلى المجهول.



اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد