سوريا وغزة: غربة تجمع اللاجئين ورائحة البلاد قاسم مشترك
آلاف السوريون خرجوا تحت وطأة الحرب في سوريا، ليجدوا أنفسهم في مواجهة حرب أخرى مجدداً لكنها هذه المرة في غزة وبوجوهٍ متعددة، فالحرب الإسرائيلية من كفة، وحرب البطالة من كفة ثانية، ليواجهوا الواقع المر بسواعد فتية، تعددت أساليبهم لكنهم استطاعوا غرس النفس السوري بين أزقة القطاع.
واحدٌ من الذين رمتهم أمواج الحرب السورية إلى القطاع، أنس قاطرجي، أحد أبناء مدينة حلب الذين تركوا بلادهم بعد معاناة إنسانية كبيرة تمثلت في غلاء المعيشة بشكلٍ مفرط وانقطاع لوازم الحياة في كثير من الأحيان، يقول أنس:" دمرت الحرب أملاك عائلتي أولها مطعمهم الذي حمل اسم "جار القلعة"، مما اضطرنا للنزوح من منزلنا لمكان آخر يجمع 30 شخصاً من العائلة في غرفتين"، يذكر أنس جيداً آخر أيامه في حلب، حيث قطعت الحرب أوصال المدينة لتحرمهم من المياه والكهرباء.
وصل أنس برفقه ذويه إلى مصر ليطلبه أحد رياديي قطاع غزة للعمل في مطعمه الخاص عام 2013، وافق على بدء العمل مباشرةً ليدخل القطاع عبر الأنفاق ويحط رحاله ويفتتح فرعاً لمطعمه السوري وحمل اسم "جار القلعة".
يرى أنس بأن اللاجئ السوري تستمر الحرب معه حتى بعد خروجه من سوريا، فبين البطالة التي يشهدها قطاع غزة يحاول أنس من خلال عمله في المطعم مجابهتها بكل الأساليب، وحتى الغربة بنفسها، حيث يجد نفسه وحيداً في كل حين رغم وجود الكثيرين معه ممن وقفوا بجانبه ودعموه.
يقول:" رغم كل شيء تبقى الغصة بضرورة وجود الأهل، لا شيء يغني عن لمة العائلة، كان من الممكن أن أكون مع والدتي حين مرضها إلا أن الحصار وإغلاق المعابر حال دون ذلك".
قاطرجي يشعر بما يعانيه شباب قطاع غزة من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية نظراً لطبيعة عمله التي تتأثر بشكل جلي بانعكاسات الأزمة، فأعداد غفيرة تُقبل على الوجبات السورية التي يقدمها، إلا أن ارتفاع وانخفاض أسعار المكونات تجعل الأمر متذبذباً.
على الضفة الأخرى، كانت التجربة ذاتها تُصاغ مع ملايين اللاجئين، هربوا لبلادٍ أخرى وتداولت أخبارهم فعُرفوا بالسماحة والرحمة وحسن العشرة، فتوجت دمشق أبنائها بطيب مسكنهم حتى استقبلهم الجميع وكأنهم أبناء الأرض الواحدة.
وريف قاسم، أو كما يحب أن يناديه البعض "أبو إيلياء"، بعد رحلة دامت لأشهر بين تركيا ومصر، رفض فيها أن يكون مجرد لاجئ لا يعمل، شاءت الأقدار أن تجمعه بأحد مالكي المطاعم في غزة، ليعود به إلى القطاع ويعرفه بأزقتها وملامح حياتها.
رأى وريف تقارباً بين سمات الحياة الغزية والسورية، لم تغنيه عن بلاده لكنها خففت وجع غربته، فافتتح مطعماً يقدم المذاق السوري، فأصبح اسماً يُعرف بالمذاق الحلبي داخل غزة، مستقطباً مختلف الفئات لحب معرفتهم ببلاد الشام.
يؤكد وريف مراراً على هويته السورية الخالصة، ورغم دراسته لهندسة الميكانيك إلا أن حبه للطهي يفوق دراسته، لذلك عمل منذ فتوته في سوريا كشيف في مطاعم مختلفة، وبذوقه الخاص تعرف وريف على أذواق الفلسطينيين وحاجاتهم وعرّف عن مدينته وجمع بين حبه لوطنه وحبه لملجئه.
زواجه من امرأةٍ فلسطينية وتجاربهما معاً يصفها وريف بأنها ناجحة وجعلته يقف مجدداً وينطلق بقوة نحو نجاحه، استطاع من خلالها بدء علاقات اجتماعية كبيرة فكانت له يداً في العون وعملا سوياً على تغطية الحرب على غزة عام 2014 لكن، "العودة دائماً لسوريا"، هكذا عبّر وريف عن طموحه، لتكون بلده محط ترحاله، فالرابط بين اللاجئ الفلسطيني والسوري هو ألم الفرقة والحنين لرائحة البلاد.
وجوه الحرب واحدة باختلاف الجاني فيها، قتلٌ وتشريدٌ لآلاف العائلات وسلبٌ للأوطان بغير وجه حق، وهكذا يستقبل اللاجئ لاجئاً آخر في غزة ويتقاسما معاً مخاض "الشرق الأوسط الجديد".