دخلت المصالحة في غيبوبة جديدة أو نوبة جديدة من نوبات موتها السريري. وهي عموماً لم تفق يوماً من الموت لكن صعقات كهربائية حادة كانت تنجح بين فترة وأخرى في نفض الجسد ودفعه للحركة المفاجأة. منذ اليوم الأول لتشكيل حكومة الوفاق بدا واضحاً أنها حكومة اللااتفاق، وانها حكومة لن تُمكن في الأرض خاصة في غزة ، وانها حكومة فوق وطنية بمعنى لا علاقة لها بحقيقة المصالحة الوطنية. هذه المرة حدث كل شيء أيضاً فجأة. مثلما حدثت المصالحة في غزة فجأة انهارت في غزة فجأة. كأنها لم تكن مؤسسة على قواعد سليمة. وهي فعلاً لم تكن مؤسسة على قواعد سليمة، بل إنها بنيت على أعمدة من ورق هش، وهي مثل قصور الرمل تتهدم امام ضربات الريح. هذا ما حدث. فجأة انهار كل شيء. هذه المرة لا توجد عودة للانقسام بل ثمة تقسيم للانقسام. ف حماس تقوم بدفع رواتب موظفي حكومتها الذين صاروا نظرياً جزءاً من موظفي الحكومة حتى يتم النظر في توصيات اللجنة الإدارية. وبات واضحاً ان ثمة تعزيزاً لحالة الانقسام داخل الوعي الحزبي والمؤسساتي. واستكمالاً فإن الحكومة لا علاقة لها بغزة لا من جهة الأمن ولا من جهة الجباية ولا من جهة الولاية على الموظفين المدنيين والعسكريين، وهي في الوقت ذاته تظل الحكومة الفلسطينية الشرعية. حالة التشظي الذي أفرزته مرحلة ما بعد الانقسام أكثر انقساماً من الانقسام ذاته.
يبدو ان حكومة الوفاق الوطني هي آخر طلقات مسدس الوحدة الوطنية، ولم يعد في جعبة المتحاورين المزيد من رصاصات الإنقاذ ولا الأفكار لإغاثة الجسد الذي دخل الغيبوبة منذ تموز العام 2007. حتى أن الأفكار المطروحة لاستعادة بريق الحوارات والابتسامات امام الكاميرات لم تعد تجذب أحداً. وكأن الجميع في انتظار المعجزة ان تحدث. مثل أن يتدخل طرف خارجي وتحديداً من جهة مصر او تركيا او ربما الجامعة العربية. لكن يبدو ان «غودو» هذه المرة لن يأتي حقاً، ولن يكون السادة المشاهدون بحاجة للطفل الصغير يأتي في نهاية العرض ليذكرهم بأن «غودو» لن يأتي اليوم، لأن كل شيء يقول إنه لن يأتي، وإن المنقذ إن لم يكن تعبيراً عن القناعة الذاتية بوجوب طي هذه الصفحة السوداء للأبد فلن يكون من الخارج.
ثمة شيء مؤلم في العنصر الخارجي دوماً، حتى لو كان هذا العنصر إيجابياً. فهو في نهاية المطاف خارجي وللخارج حدوده كما له اشتراطاته. وفي جوهر النقاش حول الشعار المقدس حول القرار الوطني المستقل تكمن حكمة التخلص من تبعة الخارج دون إفقاد القضية بعدها القومي والإنساني. لكن في حالة الانقسام فإن ثمة وطأة شديدة لوقع الخارج على مجريات المصالحة الميتة، التي يمكن أن يقال إنها حدثت عبر الكثير من التأثيرات الخارجية، والتي لا يمكن ان تزول أيضاً بقرارات خارجية، بل برغبة جامحة بالتخلص من ثقل العوامل الخارجية. وعليه فإن العودة بالانقسام إلى الجذور الداخلية وحده يمكن ان يقتلع ويجتث هذه الجذور. وبالقدر ذاته فإن انتظار الحلول الخارجية والتعويل على البعد الخارجي للمصالحة يبدو تعميقاً لأزمة المصالحة. هذا لا يعفي من التأكيد على أهمية بعض الدول الشقيقة في رعاية المصالحة. لكن هذه الدول لا يوجد بيدها الحل السحري لأزمات الانقسام، بل إن هذا الحل موجود في جوهر الآية الكريمة «إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم».
لم يكن الانقسام ملائماً ولا ضرورة، لكنه لا يبدو مسيئاً أكثر من أي وقت مضى لا سيما مع دخول حالة الاشتباك السياسي والقانوني مع الاحتلال مرحلة متقدمة. فتوقيع السلطة على ميثاق روما وبحث محكمة الجنايات عن تحريك دعوى قضائية ضد إسرائيل والحرب العنيفة التي تشنها إسرائيل على المحكمة الدولية، كل ذلك يقتضي اعادة التفكير في مآلات الانقسام وما يمكن ان يجلبه من مآسٍ وانكسارات أكبر. كان يمكن لقضية المحكمة الدولية أن ت فتح الباب واسعاً امام توسيع الصدر ونحو إزالة ما علق بجسد الوحدة الوطنية من أورام وكدمات، خاصة أن آمالاً كثيرة عقدت على توقيع اتفاق المصالحة، وهي آمال لم تكن في محلها كما اعتقدنا من وقتها. لكن، أياً كانت الحال، فإن الأبواب التي كان يمكن فتحها بدت كثيرة ومتعددة وسهلة.
والانضمام إلى ميثاق روما، بالقدر الذي يفتح آفاقاً جديدة من الاشتباك والصراع مع إسرائيل وبالتالي يوفر فرصاً اكثر، فهو يشكل تحدياً كبيراً إذا لم يتم استثماره بشكل صحيح. فمن جهة فإن وحدة حال الموقف الفلسطيني وتنسيق الجهود وتكاملها لا يبدو شرطاً فقط بل إنه أساس لا يستقيم تحقيق الأهداف الفلسطينية من وراء التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية بدونه. يبدو هذا الحديث مهماً لأننا مدمنون في تحويل كل شيء إلى مادة من مقررات الانقسام المقدسة التي نعشقها ونسعى دائماً إلى توسيعها. كما يبدو مهماً لأن افتراق الجهود ليس مضيعة للجهود ذاتها بل هو إضعاف للمواقف الفلسطينية وبالتالي، ربما، تحويلها إلى طاقات سلبية.
لا يبدو توقيت تصعيد الخلاف الداخلي مناسباً في ظل المعركة الجديدة التي فتحتها القيادة الفلسطينية في المحافل القضائية الدولية لمواجهة جرائم إسرائيل. وعلى خلاف لحظات سابقة فإن مستوى الإنذار بات عالياً فيما يخص مستوى التوافق الداخلي.
أظن أن الطرفين بحاجة لجولة معمقة من الحوار الوطني الصريح والمفصّل الذي يشمل كل شيء والذي لا يكون مقصوراً على نخبة من ممثلي التنظيمين وخبراء التفاوض فيهما، بل يكون كل فريق مكوناً من طواقم كبيرة ومتنوعة تناقش كل شيء. كانت ثمة محاولة قبل ذلك لمثل هذا الحوار، سبحان الله انتهت بالنجاح على ذمة المتحاورين بعد ساعات من الحوار. نحن لسنا بحاجة لساعات نخرج بعدها ونبتسم. نريد حواراً في الغرف المغلقة بعيداً عن ابتسامات الكاميرات وربما يتم بثه على الهواء مباشرة لأيام حتى يتم حل كل القضايا العالقة. فقط عبر مثل هذا الحوار يمكن إنجاز اتفاق لا ابتسامات.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية