تتزايد في نهاية كل عام (مالي) وبداية كل عام (ميلادي) الندوات والورشات والأيام الدراسية والحلقات الفكرية التي تتناول الشأن العام في الساحة الفلسطينية، وكالعادة يظهر مجموعة من الأشخاص ليقدموا تشخيصات للحالة الوطنية في سياق ما يُعرف شعبياً باسم (خطاب اللطم الجماعي)، ويأتوا على توصيف الأزمات التي يحياها شعبنا، وتحديداً في قطاع غزة ، ضمن منظومة متكاملة من (المظلومية الدائمة)، ولم يتبق لهؤلاء سوى إنشاء (حسينيات) لضمان مسار متكامل من إدعاء الظلم وغياب أدنى مستويات العدالة في البلاد، وهؤلاء يتوزعون في توصيفاتهم بين (خبير إستراتيجي) و(باحث ميداني) و(خبير تنموي) و(ناشط مجتمعي) و(مدير مؤسسة تنموية أو شبابية أو إعلامية أو حقوقية) و(مختص في قضايا) وغيرها من التسميات التي يطلقها أصحابها على أنفسهم في إطار حملة (البكاء على الأطلال) و(العويل على الوطن الذبيح)، ومع كل المقدمات التي يُسهب أصحابها في شروحاتهم بشأن الحالة لا تحمل أفكارهم ومداخلاتهم وأوراق عملهم وأطروحاتهم أية حلول عملية وفعالة للحالة المأزومة التي وصلت لها القضية الوطنية والحالة المجتمعية.
الشأن العام ليس مسؤولية الساسة فحسب، بل إن مؤسسات المجتمع كافة، بما فيها مؤسسات المجتمع المدني، مدعوّة لتقديم مبادرات ومقترحات ورؤى تأتي على توصيف الأشياء وتقديم الحلول الناجعة للمشكلات المطروحة، والبديل هو خطاب رياء ومداهنة ونفاق سياسي، يراعي في أدبياته الواقع القائم بمنطق de facto ولا يتوقف عند معطيات تتطلب وقفة شجاعة من الكل الوطني في مواجهة أزماته، والسؤال يبقى مطروحاً: إلى متى تستمر هذه الحالة، ومتى يتوقف هؤلاء عن اللقاء في الغرف مكيفة الهواء يتناولون ما طاب من مأكل ويتحدثون بترف عن من يسكنون الخيمة ومن انهال عليهم السقف ومن باتوا الليلة في العراء ومن أصبح مركز الإيواء موطنه، متى يتوقف هؤلاء عن إدعاء أنهم المتحدثون الرسميون باسم الفئات المقهورة والمسحوقة والمهمشة، متى ينصرف هؤلاء إلى التفكير في قضايا الشباب والمرأة والأطفال والأشخاص ذوي الإعاقة وحمل الحلول التي تزيح جزءاً من العبء عن كاهل هؤلاء الذين لا يحضرون هذه الجلسات إلا باسم معاناتهم ولا يلتقون مع (متحدثيهم الرسميين) في قاعات الفنادق؟.
الحالة اليوم في قطاع غزة تستدعي من كل شرفاء هذا الشعب، في الداخل والخارج، أن يتوقفوا أمام مسؤولياتهم، وعدم الإكتفاء بتوصيف معاناة الناس، أو تحميل المسؤولية للمقصرين من ولاة الأمر، المأساة تتطلب وقفة شجاعة مع النفس، وصحوة ضمير جماعية، ومبادرات ومقترحات وحلول للأزمات، وأفكار منتجة وليس سردية ولا نمطية للمعالجة، لا نريد كلاماً مرسلاً بشأن المعطيات القائمة، المطلوب هو جهد خلّاق وروح جماعية عالية، وفريق عمل وطني، من مختلف الأيديولوجيات والمرجعيات الفكرية والرؤى والمواقف، مع استدعاء واضح المعالم لكافة الجهات التي يمكنها المساهمة في معالجة الأزمة، ومن ثم الذهاب بعيداً باتجاه تغييرات في الواقع يلمسها المواطن، وينهض معها حلم الشباب في وطن يمكن العيش فيه، بعد أن أوصلنا ساسة هذه البلاد ومفكروها إلى حالة تجعل مجرد الشعور بالأمل هو ضرب من المستحيل.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية