حظيت القضية الفلسطينية، طوال سنوات عمرها المريرة، بدعم كبير من القارة اللاتينية أو ما يعرف بأميركا اللاتينية، ولكن يبدو أن تغيراً كبيراً سيغيّر من هذا الدعم يتمثل في فوز المرشح اليميني جايير بولسونارو برئاسة البرازيل، والوعود التي أطلقها ويصرّ عليها بنقل سفارة بلاده إلى القدس . وفي عالم السياسة، فإن التحولات لا تتوقف عند حد، ما لم يتم اتخاذ خطوات لمجابهتها. وبكلمة أخرى، فإنه من الصعب توقع أن يقف الأمر عند هذا الحد. وحتى لو تراجعت البرازيل عن قرارها لاعتبارات كثيرة ستحضر على الطاولة عند اللحظة صفر، فإنه من الصعب توقع أن ينتهي الموضوع. ما أرمي إليه أن علينا أن نقرع الأجراس كفلسطينيين ونحن ننظر إلى ما يصيب العالم من تبدّل وتحوّل: التغير الكبير الذي يصيب الكثير من الدعم الشعبي والرسمي الذي حظيت به قضيتنا الوطنية طوال عقود من الزمن. 


إن الشعور بالخطر يجب أن يحركنا ونحن نبحث عن حلول لمواجهة هذه التحولات، لأنها لا تعني فقط انزياحاً مهماً في منطقة آمنة سياسياً بالنسبة لنا، بل إلى جانب أهمية ذلك فإن ما يجري ليس تحولاً بل اصطفاف إلى الرواية الإسرائيلية والمطالب السياسية النقيضة. مرة أخرى وربما ليس قبل زمن بعيد وعلى هذه الصفحة قلنا: إن ترامب لن يظل وحيداً، وحتى يظل وحيداً لا بد من الكثير الكثير وعدم الاكتفاء بالشجب والإدانة. وحتى لو تراجع بولسونارو عن قراره تحت ضغط عوامل عدة، فإن الجرس لا بد أن يقرع بشكل مستمر؛ لأن المواجهة مع إسرائيل لم تكن بسيطة، ونحن كفلسطينيين أكثر مَن يمكن أن يقول هذه الحقيقة، ولن تكون بسيطة في أي لحظة. 


الدعم الكبير الذي حظيت به القضية الفلسطينية في أميركا اللاتينية مرده الكثير من الأسباب التي يمكن الوقوف على بعضها. ربما الحقيقة الديموغرافية أهمها، حيث إن قسطاً ليس بقليل من المهاجرين في بلدان تلك القارة هم من بلاد الشام وفي بعض البلدان يتمتع المواطنون من أصول عربية بالكثير من النفوذ في النظم السياسية والحياة العامة. ولعل أبرز تلك الأمثلة الجالية الفلسطينية في تشيلي ذائعة الصيت. بل إن بعض المهاجرين من أصول عربية نجحوا في الوصول إلى رئاسة بعض تلك البلدان مثل الرئيس الأرجنتيني «منعم» والسلفادوري من أصول فلسطينية «السقا» وغيرهم. ويمكن الوقوف على مساهمات كبيرة لهؤلاء المهاجرين في الاقتصاد والأدب والفن والسياسية. وهذا موضوع آخر. أما السبب الآخر وراء هذا الدعم فهو حالة العداء التاريخية للولايات المتحدة والتي تأتي دائماً من القواعد الشعبية ووجود قوى ثورية تحررية مثل كوبا والرئيس كاسترو. وترتبط بهذا قوة اليسار التاريخية في القارة التي أنهكها الجنرالات وتجار المخدرات ووكلاء الحروب. أسباب يمكن أن يضاف إليها العوامل الدينية حيث الكاثوليكية المنتشرة في القارة.


لم تكن القارة يوماً قارة يسار بامتياز، بل بفعل وجود كاسترو وقرب الجوار من واشنطن فإن الصراع بين اليمين واليسار في القارة كان أكثر ضراوة منه ربما في أي مكان آخر، وشهدت السياسة طوال قرن من الزمن تقلبات وتحولات وانقلابات وفترات حَكم فيها العسكر بالنار والحديد قبل أن تحدث موجة الديمقراطية الثالثة (وفق تصنيفات هنتغتون) وتحدث عملية التحول الديمقراطية وتتخذ نظريات الدمقرطة التي تحدث عنها بإسهاب فيليب شميتر ورفاقه من دارسي التحولات التي شهدت مع ذلك انتكاسات عديدة، لكنها نجحت في تخفيف حدة الديكتاتوريات في القارة المنهكة من الاقتتال والصراع لأسباب عديدة. كان اليمين واليسار في صعود وهبوط لأن هذه إحدى أهم مزايا الديمقراطية الحقيقية.


لكن في كل الحالات لم تكن القضية الفلسطينية ضحية هذه الصراعات. صحيح أن مكوناً أساسياً من الاختلاف بين اليمين واليسار يتمركز حول السياسات الدولية والانتصار للقضايا العادلة ولحريات الشعوب كترجمة للانتصار لحريات الفرد بجانب الإيمان بقوة المؤسسات الدولية (هذه من التحولات التي جرت على اليسار) مقابل نزوع اليمين للهيمنة وتهميش هذه المؤسسات وتطويعها لصالح قرارات عدوانية تعمق غياب العدالة بين الشعوب وتخدم برامج الدول والقوى الاستعمارية أو المهيمنة. ما أقول: إنه لأول مرة نقف بجدية أمام تحوّل يمس مكانة القضية الفلسطينية في قارة آمنة سياسياً بالنسبة لنا. هذا التحوّل ليس في أوروبا الغربية، أو ربما في أوروبا الشرقية مع تحولات ما بعد جدار برلين واللهفة لتبني سياسات تسعد واشنطن وتل أبيب، ولا في أستراليا وأميركا، بل في قارة بعيدة كثيراً عن خارطة الحسابات. قارة كانت تمتلك القضية الفلسطينية قوة تصويتية مهمة فيها بجانب دعم شعبي ورسمي يساهم في تعزيز حضور القضية الفلسطينية في المشهد الكوني. 


نجاح مرشح الحزب الاجتماعي الليبرالي المحافظ جايير بولسونارو اليميني الذي يتخذ من ترامب قدوة له في كل شيء، من السياسة الداخلية إلى توجهات السياسة الخارجية،  سيكون له الكثير من التبعات. ثمة صعود لليمين في القارة اللاتينية، سواء في الأرجنتين أو كولومبيا، كما ثمة تعزيز للتوجهات اليمينية في العالم، خاصة في أوروبا. وبالقدر الذي لا يمكن لنا أن نؤثر في مثل تلك التحولات، علينا أن نكون جاهزين لتجنب تأثيرها على قضيتنا الوطنية. هناك زخم شعبي كبير في أوساط تلك البلدان ذات التوجهات اليمينية رسمياً لا بد من استخدامه للضغط من أجل منع إحداث تحولات في مواقفها تجاه القضية الفلسطينية. وتحديداً في القارة اللاتينية لا بد من طرح القضية في أوساط السكان من أصول عربية حتى يتحركوا للدفاع عن قضية في صلب هويتهم. إلى جانب تبني الدول العربية لمواقف حازمة تجاه موضوع نقل السفارة. لم تقاطع الدول العربية واشنطن بعد نقل السفارة، أليس هذا محفزاً للبرازيل لمواصلة سعيها لنقل سفارتها. وعليه يجب الوقوف بحزم تجاه هذه القضية والرجوع إلى أساس المشكلة: نقل ترامب للسفارة ووجوب مقاطعة كل الدول العربية لواشنطن ووقف كل أنواع العلاقة معها. إذا لم يحدث هذا لن يوقف أحد البرازيل ولا أستراليا ولا التشيك عن الاستمرار في نقل سفاراتها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد