في باريس تنازل نتنياهو عن العملية السياسية
غزة / ترجمة أطلس للدراسات الاسرائيلية / عندما تلمس بنيامين نتنياهو طريقه إلى الصف الأول في مسيرة القادة في باريس (11 يناير) اختار ان يصافح الرئيس المالي ابراهيم كيتا، وسار معه وشابك ذراعه بذراعه في شوارع العاصمة الفرنسية.
في الإعلام الإسرائيلي؛ كتب بعدها بيوم واحد الكثير من المقالات التحليلية الطويلة، تولت أوصافاً ملونة قبيحة لرئيس الحكومة الإسرائيلي: نتنياهو لم يكن فقط شخص غير مرغوب فيه في الواقعة، وإنما دفعته وقاحته الى مقدمة الصف الأول، حيث سار فرنسوا هولاند وأنجيلا ميركل.
الأمر الذي خفي في مشهد نتنياهو الاندفاعي أيضاً، ولم يحظَ باهتمام كبير، هو اختياره المعلوم لإيجاد المكان الأبعد في الصف من رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن، الذي شارك هو الآخر في مسيرة تأبين ضحايا الإرهاب ومن بينهم القتلى اليهود.
كان بإمكان نتنياهو ان يستغل الفرصة ويصافح الزعيم الفلسطيني في هذا الحدث العالمي المناهض للإرهاب، ولكن صورة كهذه كما تعلمون كانت آخر أمر يضطر ان يفعله في ظل ذروة المعركة الانتخابية، حيث يقاتل من أجل الحصول على أصوات اليمين.
ما من شخص يعرف أفضل من نتنياهو أن الكثيرين من مواطني إسرائيل ملوا العملية السلمية، وأن أبا مازن بالنسبة لهم هو قائد لكيان إرهابي، كان نتنياهو رئيساً للمعارضة ومن بعدها رئيساً لحكومة إسرائيل، وكان بمثابة محرك التيربو الذي يقف من وراء عملية غسل أدمغة الجمهور الاسرائيلي لتحويل أبي مازن إلى شخصية غير مناسبة وداعمة للإرهاب، وذلك رغم ان نتنياهو يعرف جيداً ان عباس لم يعمل فقط طوال العقد الأخير، حتى أثناء عملية "الجرف الصامد" على منع الإرهاب، وإنما ينظر اليه على انه عدو ل حماس ؛ حماس ذاتها التي وصفت أبا مازن بأنه "منافق وبهلوان سياسي" في أعقاب قراره الذهاب الى باريس، ولكن بدلاً من القيام باختيار البديل الأنسب والأصح بين أبي مازن وقادة حماس الذين تخلص العالم العربي منهم أيضاً؛ فإن نتنياهو ومثل مناضل منضبط يقف على مسافة بعيدة منه.
بالنسبة لنتنياهو؛ فإن مذبحة اليهود في باريس هي ضالته بالتحديد، انه حادث يناسبه مثل قفاز في اليد في أيام الحرب السياسية على فترة حكم رابعة لرئاسة الحكومة، نتنياهو هو رجل المهمات نتاج الطبيعة والثقافة العسكرية في دورة الأركان العامة التي تمنحك القدرة على الانتحار في سبيل تحقيق الأهداف، لذلك عندما فهم نتنياهو متأخراً بعض الوقت انه يمتلك الفرصة للسيطرة على جدول أعمال العالم في غزوته على الإرهاب، وبهذا سينظر إليه من قبل الناخب على انه سيد الأمن، فقد انقض على المهم بكل ما أوتي من قوة.
أزال نتنياهو بسهولة نسبية العقبات التي واجهت طريقه في شخص الرئيس الفرنسي هولاند الذي فضل ألا يصل الى المسيرة، فلم يصل بطائرة خاصة فحسب الى باريس وتسلل الى الصف الأول الى جانب ميركل وهولاند؛ وإنما نجح أيضاً في استغلال الوضع، وحتى نهاية العرض الدولي، في الربط بين الصراع الاسرائيلي الفلسطيني وبين الإرهاب الذي يضرب أوروبا، في هذه الحالة فقد خطب نتنياهو في الكنيس الأكبر في باريس، وقوبل بحميمية من قبل اليهود هناك، ولكنه تحدث مباشرة الى الجمهور الاسرائيلي الذي سيقرر في الـ 17 من مارس إذا ما كان سيواصل الجلوس في مكتب رئيس الحكومة في السنوات القادمة أيضاً، لذلك لم يهم نتنياهو انه في حقيقة الأمر فرض نفسه على أوروبا.
منذ شغل منصب سفير إسرائيل في الامم المتحدة (1984-1988) خطب نتنياهو مئات المرات، إن لم يكن آلاف المرات، نفس الخطاب الذي خطبه في اليوم الأول عشية الـ 11 من يناير في باريس، الخطاب الذي تضمن كالعادة الاشارة الى الخطر الذي يحدق بالغرب من ناحية الارهاب الاسلامي المتطرف، والعلاقة لخطيرة بالنووي الإيراني، والمصير المشترك التي يجب الآن التقاط زخمه بين اسرائيل والغرب في الحرب المصيرية ضد أتباع الاسلام المتطرف، وعن التعديلات المطلوبة لأحداث الأيام الأخيرة قال نتنياهو "إسرائيل تقف مع أوروبا، وعلى أوروبا ان تقف مع إسرائيل، مثلما وقف العالم المتحضر اليوم مع فرنسا ضد الإرهاب؛ هكذا عليه ان يقف مع إسرائيل اليوم ضد الإرهاب، وهو بالضبط ذات الإرهاب، هؤلاء الذين ذبحوا اليهود في كنيس القدس والذين ذبحوا اليهود والصحفيين في باريس ينتمون الى ذات الحركة الإرهابية الدموية، ويجب إدانتهم بنفس المستوى ومحاربتهم بنفس الطريقة".
من ناحية نتنياهو فقد تحقق الهدف بشكل كامل، الوصف القبيح الذي ورد بعضه في الاعلام الاسرائيلي حول آثامه في باريس لا يقلقه الى هذا الحد، لقد بلغ الهدف واحتله.
سيواصل نتنياهو في الأيام القريبة القادمة عصر هذه الليمونة حتى النهاية، قبل خطاب آخر في إطار الجنازة الرسمية للقتلى الأربعة، والذين سيدفنون في مقبرة جبل الرحمة في القدس يوم الثلاثاء بعد ظهر الـ 13 من يناير، خطابه أيضاً نتوقع ان يجمع في رزمة واحدة بين إرهاب داعش وإيران والقاعدة وحماس، والصراع الاسرائيلي الفلسطيني، نتنياهو طبعاً لا يميز حتى بين حماس وعباس، رغم انه يعرف تماماً الفرق بينهما، ولا يميز بين الصراع القومي بين اسرائيل والفلسطينيين، وبين إرهاب داعش.
الاستخدام الذي يسخره نتنياهو بمهارة فائقة يخدم جدول أعمال محدود جداً، يحظى بتأييد الجمهور الاسرائيلي الذي ملّ من الانتفاضات ومحادثات السلام.
هذا زمن الانتخابات الآن، ومن المؤكد باختصار ان يتمتع نتنياهو من عدم تدخل القادة الاوروبيين والامريكيين في الصراع الاسرائيلي الفلسطيني، وفي المقابل فأمله في تحويل إسرائيل الى جزء لا يتجزأ من خارطة الارهاب الاسلامي الذي يضرب الآن في أوروبا يمكن ان يقنع، خصوصاً جمهوره الداخلي، أما خارج إسرائيل، ولا سيما في أوروبا المشغولة الآن في الدفاع عن نفسها، يتواصل نفاذ صبرها على اسرائيل التي تواصل البناء في المستوطنات أو صبرها على رئيس الحكومة نتنياهو الذي وعد بعد "الجرف الصامد" ان يكون جزءاً من مبادرة حوار إقليمية، ولكنه نسي فوراً ما قال، ربح نتنياهو لا شك وكالعادة سريع وفوري.