من يراقب المشهد الإسرائيلي في حقل السياسة، وفي اطار المجتمع السياسي فيها، يمكن أن يصاب بالدوار وهو ينتقل بين معسكر وآخر، وفي اطار كل معسكر على حدة.
فوضى عارمة واتهامات تجاوزت كل الحدود.
انتهازية أسوأ من الشايلكية، وابتزازات عزّ مثيلها في العالم كله.
لا يجد المرء ـ المراقب ـ تفسيراً مقنعاً لهذه السريالية في إسرائيل سوى أنها دولة هاربة.
كيف؟
قبل الإجابة دعونا نتأمّل في الظواهر والمتناقضات التالية:
•    هل إسرائيل دولة قوية وجبّارة، وعلى أعلى درجات التطوّر في مجالات رائدة وهامة وحساسة؟ الجواب: نعم.
•    بالمقابل، هل إسرائيل دولة هشّة وواهنة وضعيفة؟ الجواب: نعم.
•    هل إسرائيل دولة ذكية؟ الجواب: نعم. وهل إسرائيل دولة بلهاء وغبية وخرقاء؟ الجواب: نعم.
•    هل ديناميات تطوّر البنية الاجتماعية والثقافية في إسرائيل ستفضي إلى العنصرية السافرة وربما الانزلاق إلى الفاشية؟ الجواب: نعم.
•    وهل بالمقابل ما زال المجتمع الإسرائيلي قادراً ويمتلك مقومات مواجهة هذه النزعة المتسارعة؟ الجواب: إلى حدٍّ ما وإلى حين فقط.
كيف لدولة يتحول فيها الاستيطان والمستوطن إلى «الهمّ» الوطني، وإلى محور كل السياسات وتتحدث عن «السلام»؟
أقصد هل يوجد أي فرصة لأي سلام من أي نوع كان مع هذه السياسة وهذا التحول؟
بالمقابل إذا تغيّرت الظروف وأصبحت إسرائيل أمام ممر إجباري للسلام، فهل سيسمح المستوطنون بذلك، أم أنهم بدعم من اليمين الديني المتطرف يمكن أن يقلبوا كل شيء وصولاً إلى الحرب الداخلية الإسرائيلية؟
الجواب: نعم. يمكن أن تصل الأمور إلى هذه المرحلة!
وفي ضوء ذلك يلتبس مفهوم الحرب والسلام في إسرائيل إلى درجة مذهلة.
فلا هي دولة قادرة على صنع السلام، ولا على فرضه، وبالمقابل لم تعد الحروب سهلة وأصبح مفهوم الاكتساح والتدمير الذي يمكن أن تقدم عليه ينطوي على هزائم ضمنية محققة.
أعود الآن إلى وصفي لإسرائيل بأنها دولة هاربة. هاربة من الإجابة عن سؤال الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني. وكل ورطات إسرائيل وأزماتها ومتناقضاتها نابعة من هذا التهرب وهذا الهروب.
لو عدنا إلى الحكومات الإسرائيلية كلها وبدون استثناء وكيف كانت تنهار وتتهاوى منذ اتفاقيات أوسلو وحتى يومنا هذا سنجد أن أسباب هذه الانهيارات كانت دائماً فلسطين.
صمود فلسطين، مقاومة فلسطين، صلابة فلسطين على الرغم من الحالة المزرية للحالة الداخلية الفلسطينية.
قُتل رابين بسبب فلسطين وسقط بيريس بسبب فلسطين، وقبلهما كان بيغن وشامير قد سقطا بسبب فلسطين. سقط نتنياهو في المرة الأولى بسبب فلسطين، وها هو يسقط في المرة الثانية بعد سجل قياسي بسبب فلسطين. أما شارون فحدّث ولا حرج. والذين سيأتون سيسقطون أيضاً بسبب فلسطين.
إنها اللعنة الفلسطينية التي تلاحقهم في كل مكان، وفي كل وقت، وفي الشارع والبيت، والمعسكر وفي الحافلات والطرقات، وفي كل تفاصيل الحياة الإسرائيلية.
وكلما تأزّمت الأمور على كل مستوى وفي كل مجال تزداد إسرائيل تعنتاً وتهرب من سؤال الحقوق الوطنية للفلسطينيين.
ولهذا فإن إسرائيل دولة تكذب على نفسها، وعلى شعبها، وتتكاذب بين أحزابها، وتخادع العالم، وتخادع أصدقاءها وحلفاءها، وخصومها وأعداءها، لأنها تفضل الهروب من سؤال الأسئلة:
ودون أن تقف إسرائيل أمام هذا السؤال فلا حل لأزماتها، ولا مجال مطلقاً لاستقرارها.
وكل تقدم تتشدق به وكل تطور علمي وصلت إليه هو في مهب الريح، ولا طائل حقيقياً من ورائه إذا لم تجب عن سؤال السلام القائم على الاعتراف الكامل بحقوق الشعب الفلسطيني.
في إحدى التقاطات الصحافي الإسرائيلي الشجاع جدعون ليفي اشار الى انه آن الاوان لفهم هذا الشعب الفلسطيني.
هذا شعب من أعرق شعوب الأرض وأكثرها تمسكاً بهويته وأرضه وتراثه.
حاولت إسرائيل تشتيته وتهجيره، وتدمير كل مناحي حياته، وراهنت أن الأجيال الكبيرة ستموت والأجيال الصغيرة ستنسى فماذا كانت النتيجة؟
النتيجة أن شعباً أعزل واجه إسرائيل التي كانت مدعومة من بريطانيا العظمى، ومن أكبر تنظيم عالمي وهو الحركة الصهيونية، ومن كل الغرب وبدون استثناء يذكر، ثم تحولت الولايات المتحدة الأميركية ليس إلى دولة داعمة لإسرائيل فقط وإنما مشاركة مباشرة في تنفيذ مخططاتها، ومدافعة عنها أكثر من دفاعها عن المصالح القومية الأميركية أحياناً.
لم يواجه فقط وإنما تحولت قضية هذا الشعب إلى رمز للحرية والعدالة وإلى معيار أساس لكل القيم الإنسانية.
لم يفهم الإسرائيليون أن الشعب الفلسطيني من «طينة خاصة» كما قال جدعون ليفي، وعلى ما يبدو فإن إسرائيل يلزمها المزيد من الوقت للتسليم بهذا الواقع.
مشكلة وربما أزمة إسرائيل في متاهتها الجديدة هي عامل الوقت. كان لدى إسرائيل قبل السنوات القليلة الأخيرة الوقت للمناورة وكان الوقت بالنسبة لها لعبة خلق الوقائع على الأرض.
الآن تغيرت الصورة بالكامل، او هي تتغير بالكامل.
تغيير الوقائع على الأرض من المفترض أن يؤدي إلى فرض المفهوم الإسرائيلي «للسلام»، وان يؤدي بالتالي إلى أن يكون «الحل» القادم قائماً ومؤسساً على تلك الوقائع.
الواقع يقول إن هذه الاستراتيجية قد فشلت وشبعت فشلاً. وإذا كانت خطة ترامب هي في الجوهر تكريس هذا الواقع، وهي «شرعيته» الاستراتيجية الإسرائيلية فإن إسرائيل تعيش أكبر وهم منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا.
الشعب الفلسطيني سيطيح بها وسيدوسها بأقدامه، وأكثر من يعرفون ذلك هم القابعون في الإدارة الأميركية وهم يعرفون أنهم فشلوا وأُفشلوا.
ماذا يتبقى أمام إسرائيل سوى الضم في هذه الحالة؟
وإذا ضمت فهل تكون قد كرّست الوقائع أم فتحت على نفسها حرباً جديدة ومفتوحة؟
خيارات إسرائيل المتبقية فاشلة ويائسة وليس لها أي مستقبل، وليس أمامها سوى الفشل فالفشل ثم الفشل.
لماذا؟ لأنها تهرب، وهي دولة هاربة وكاذبة ومخادعة وتضلّل نفسها وشعبها، ولا تريد التسليم بالواقع الذي مفاده:
ليس أمامكم من حلٍّ سوى التسليم بهزيمة الاستراتيجية الإسرائيلية التي قامت وتأسّست على الهروب.
فإذا كانت خيارات إسرائيل باتت تتراوح بين الضمّ و»الترانسفير» فإن النصر الفلسطيني بات أقرب من أي وقت مضى.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد