في الشهر الأخير شاركت مرتين في قناة الحرة الأميركية في برنامج «ساعة حرة»، وعادة ما يستضيف هذا البرنامج صحافيين إسرائيليين إلى جانب الصحافيين الفلسطينيين، الأولى كانت قبيل التصويت على المشروع الفلسطيني والقاضي بتحديد مدة زمنية لإنهاء الاحتلال أما الثانية فكانت الأسبوع الماضي بعد فشل المشروع وفي إطار النقاش كان يصل الحديث إلى سياق استمرار الانسداد وصولاً لحل السلطة كنتاج طبيعي لفشل الحل بين الجانبين.
في حلقة ما بعد فشل المشروع حين وصلنا إلى فكرة حل السلطة قال الصحافي الإسرائيلي عكيفا الدار إن ذلك سيكون المشكلة الأبرز لإسرائيل ناقلاً على لسان اثنين من جنرالات إسرائيل نصا إن «حل السلطة هو الكابوس الأكبر لإسرائيل» لأنه صحافي يساري كان يريد من الفلسطينيين أن يذهبوا بهذا الاتجاه ضد الاحتلال.
أما حلقة ما قبل التصويت والتي أشرت فيها إلى أن تقديم المشروع جزء من مسار متدرج بدأ بفشل المفاوضات وسيصل إلى محطة مجلس الأمن وحين يفشل نحو المحكمة الدولية وسينتهي في حال العجز عن إنهاء الاحتلال إلى حل السلطة .. فرد الصحافي الإسرائيلي ايلي نيسان ساخراً بالقول: «هذه تهديدات سمعناها كثيراً وهذا لن يكون لأن المسؤولين الفلسطينيين اعتادوا على رغد العيش وعلى امتيازات السلطة ولن يفرطوا بها هم وأبناؤهم.
عكيفا الدار قال في سياق آخر إن سلاح التهديد بحل السلطة فقد مفعوله لأن المسؤولين الفلسطينيين استخدموه كثيراً ولم تعد تأبه إسرائيل أو تصدق أنهم سيفعلونها لذا وجب اتخاذ قرار فلسطيني يضع إسرائيل أمام حقيقتها كدولة احتلال.
ليس مهم هنا ما يقوله الإسرائيليون من كتاب أو مسؤولين لكن المهم هو أننا أمام حقيقة مؤلمة علينا أن نتوقف أمامها بهدوء شديد ونفكر بشكل مسؤول بواقع بدا أسوأ مما تخيلنا منذ عقود حين لم نتصور أننا سنقع في كمين هذا المستوى من الدهاء الإسرائيلي الذي استطاع جرنا إلى تحويل السلطة إلى حالة دائمة مبقياً الوضع الراهن كما هو عليه محافظا على معادلة هو المستفيد الوحيد منها على حساب الشعب الفلسطيني، إبقاء السلطة لتتحمل مسؤولية السكان المدنيين وإبقاء الاحتلال دون تكلفة لهذا يرفض أي شكل من أشكال إنهاء الاحتلال سواء بالمفاوضات أو بالمؤسسات الدولية.
فالسلطة أنشئت وفقاً للاتفاقيات لمدة خمس سنوات ولها دور وظيفي محدد كما يقول علماء الاجتماع هو التفاوض مع الاحتلال على حل الدولتين ولأنه لن يتم بناء اقتصاد فلسطيني خلال السنوات الخمس تقرر أن يتحمل العالم مسؤولية رواتب موظفي السلطة وتبقى إسرائيل مفتوحة أمام العمال وهكذا كان بالإمكان إيجاد فرص عمل للجميع، ولكن أن تتحول المسألة إلى فكرة دائمة ونظام قائم للأبد فهذا لا يمكن، وقد ثبت أن سلطة تحت الاحتلال لا تستطيع بناء اقتصاد وطني قادر على استيعاب الأيدي العاملة من مئات الآلاف لكنها فقط تتمكن من تأمين الرواتب للموظفين فقط، لهذا تردى الوضع الاقتصادي للمواطن الفلسطيني، فلا يمكن لأي سلطة تحت الاحتلال أن توفر فرص عمل للجميع وهي فقيرة لا تتحكم بمواردها ولا معابرها وهذا ما كان يستدعي وقفة كبيرة فيما أن إسرائيل تخلصت من هذا العبء الكبير بلا ثمن وأرادت إبقاءه كما هو.
ومع تردي الوضع الاقتصادي تردى الوضع الاجتماعي والإنساني والأسوأ أن الوضع السياسي كان الأكثر اختناقاً إلى الحد الذي حوصرنا ولم نعد نجد وسيلة للتحرر من الاحتلال لا بالمفاوضات ولا بالمقاومة «تجربة الحروب الثلاث الدفاعية» ولا بمجلس الأمن ولا غيره إذن، ينبغي التفكير بمخرج أمام هذا الانحدار الهابط والحصاد الذي جنى مزيداً من الفقر والغرق في الجزيئات ومزيداً من التغول والاستيطان.
في الانتفاضة الأولى كلفت إسرائيل فريقاً من الباحثين وعلماء الاجتماع لدراسة أسباب الانتفاضة حيث كان الفلسطيني الأعلى دخلاً بالنسبة للمحيط العربي وقادراً على شتم رئيس وزراء إسرائيل على بوابة مكتبه فما الذي حدث؟ الاستنتاج أنهم درسونا وفقا لهرم «ماسلو» اي سلم الحاجات والغرائز والذي يرتب القضايا وفقا لقاعدة الهرم التي تبدأ من الغرائز ثم الحاجات الرئيسة ثم الثانوية ويذهب نحو حاجة البحث عن الذات. ليكتشف علماء الاجتماع الإسرائيليون أن الفلسطينيين تجاوزوا القواعد الأولى للهرم من غرائز وحاجات ووصلوا إلى مرحلة تحقيق الذات والبحث عن الهوية .. لهذا أعادت إسرائيل صياغة سياستها الاستراتيجية وفقا لهذه النتائج فتقرر إعادتنا إلى البحث عن الغرائز والحاجات من فرصة عمل، ماء، كهرباء، كيس اسمنت وهذا المستوى الذي نسمعه في شكاوى كل المواطنين والمسؤولين، ألم تتحول قصة الكهرباء في غزة إلى أم القضايا الوطنية؟ .. هذا مثال يعكس كيّ وعي المواطن الفلسطيني فمن يتذكر حق العودة فيما البعض في غزة يطالب بحق الهجرة؟ رأينا كيف غرقت مراكب نقل مهاجرين من غزة.
لا يمكن أن تستمر الحياة هكذا ولا يمكن أن تقبل السلطة استمرار انشغالها بالعمل الأسود نيابة عن إسرائيل وتتسول للانفاق بصعوبة على مناطق مسؤول عنها الاحتلال فهذا لا يجوز ناهيك عن أن وجود السلطة قد خفف من حدة الاشتباك اليومي مع الاحتلال في الضفة وغزة بالرغم من الحروب على غزة ولكنها دفاعية موسمية بعدها نذهب للتهدئة بالإضافة إلى أن وجودها يعفي الاحتلال من مسؤولياته الكبرى في كل شيء.
لهذا، فإن النقاش بحل السلطة أصبح ضرورة وطنية وإنسانية وإن جعلت إسرائيل الأمر في غاية التعقيد وإن العملية هي عملية جراحية تستدعي البتر ولكنها قد تكون أفضل الخيارات وأهون من موت المشروع كله الذي استدرج إلى وضع في غاية الصعوبة إذ بقي الاحتلال وزاد الاستيطان في الضفة وزادت فاتورة الدم في غزة وزادت الناس فقرا وبلا خدمات.
قد يقول قائل هذا صحيح ولكن في الضفة يجب حل السلطة وأن تبقى في غزة تحت وهم أنها منطقة محررة ويمكن أن تكون هانوي فلسطين نبدأ بها، والرد ببساطة بأن هذا هو المشروع الإسرائيلي تماما بالتخلص من غزة فقد قامت فكرة أوسلو على ذلك، التخلص من غزة وفصلها للتخلص من العبء السكاني والديمغرافي وإلقائها نحو الجنوب فغزة وحدها لا تستطيع أن تكون هانوي لهذا يجب أن يعلو النقاش الوطني ومع كل الفصائل بفكرة حل السلطة في الضفة وغزة، وغزة قبل الضفة وليتحمل الاحتلال مسؤولياته من جديد ولتبدأ حالة تداخل واشتباك أخرى حتى يقول الإسرائيلي: «فهمتكم» فهل نصغي لما قاله الجنرالان الإسرائيليان لعكيفا الدار حول كابوس حل السلطة؟ أم نصدق سخرية إيلي نيسان بأن المسؤولين اعتادوا على ترف العيش ولا يستطيعون؟ الأمر بحاجة لقرار انقلابي على كل ما تشكل .. قلب الطاولة في وجه إسرائيل.
Atallah.akram@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد