اعتدتُ منذ سبعة وثلاثين عاما أن أكتبُ عن لغتنا، أعراضها وأمراضها، مُذكرا القارئين باليوم العالمي للغة العربية، يوم الثامن عشر من ديسمبر لمناسبة اعتماد لغتنا كلغة دولية في مؤسسات الأمم المتحدة.

مرّ يومُ اللغة العربية هذا العام في معظم أجواء أمة العرب كغيمة صيف، لم يرها أحد، فلم أرصد أي احتفال كبير ذا شأن بهذا اليوم العالمي الذي أقرتْهُ الأمم المتحدة في عام 1973

نعم نحن مشغولون بالسياسة، فلم تعد اللغةُ العربيةُ ملائمة لأفواهنا، لأن خبزَ أفواهنا مملوءٌ بسوس اللهجات واللغات الأخرى، أما نداواتنا فتنشر الأمراض المزمنة للهجاتِ في قواميسها ومصطلحاتها، وتتولى ألسنتُنا شنق اللغة، ثم تلفظها شفاهُنا جثثا هامدة!

فأطفالنا اليوم يرضعون أثداء بقايا اللغاتٍ الأخرى، وقادتنا، وسياسيونا، ومثقفونا، حوَّلوها إلى مشاجب يعلقون فوقها نظرياتهم السياسية التضليلية، التي تُبرز عجزهم، وبؤسهم، وقلة حيلتهم!

أما معلموها فهم ناسجو أكفانها، وحافرو قبورها، يُجرعونها لطالبيها كدواء انتهى تاريخُ صلاحيته، بملاعق مسطحة، مثقَّبة.

أما وسائل إعلام العرب، فقد أصبح الحديثُ الفصيحُ في معظم برامجها، وحواراتها، ومسلسلاتها تقعُّرا، وفذلكة، وتنطُّعا، وفلسفة، تُنفِّر السامعين.

لن أستعيدَ مرة أخرى قصيدة الشاعر حافظ إبراهيم التي يُعاتب بها أبناء اللغة وأهلها على إهمالهم لها، فماذا سيقول الشاعر لو عاش بيننا اليوم؟

هل سيدفنها بقصيدة جديدة، أم أنه سيقيم لها تأبينا بذكرى مرور قرن على بقائها في غرفة الإنعاش؟

ما أروع العرب!!!

فهم يملكون سبعة مجامع لغوية للغتهم المشتركة الواحدة، تقوم بالنحت والتشريع وفق رؤية أعضائها، وهم اليوم يضعون لغتهم على سرير التشريح الطبي، ويُعملون في جسدها المشارط السياسية.

إن معظم المكاتبات الحكومية مملوءة بالأخطاء اللغوية، وصار الخطأ قانونا، أما الصواب فصار استثناءً!

حتى الشيك البنكي، لا يقبله كثير من موظفي البنوك إذا كتب باللغة الصحيحة، مثلما حدث لي عندما كتبت الرقم بالحروف" ادفعوا لأمري ألفي دولار"

فأصرَّ الموظف على زيادة حرف النون لكلمة (ألفي)!! وأصررتُ على شطبها، وأمضيتُ ساعاتٍ في الحوار والجدل، لأقنع الموظف بصحة كتابتي!!

كما أن معظم معلمي اللغة العربية في المدارس، والجامعات، يشرحون قواعدها وآدابها بالدارجة!!

نجحتْ كلُّ دول العالم في تطويع تكنولوجيا العصر لخدمة لغاتها، فصاغوا لغاتهم في قوالب تعليمية جميلة بأشكال مختلفة، وظلتُ لغتنا العربية تحتاج إلى الغوَّاصين، والمنقبين، عن دُررها ليتمكنوا من الاستغناء عن الطريقة التقليدية الجامدة في تدريس قواعدها ونحوها، فقواعد اللغات في العالم تُدرس من خلال النصوص، وليس من خلال الألفيات الشعرية.

ما تزال وسائل الإعلام العربية لا تلتزم بالحد الأدنى الأدنى من اللغة الفصحى، ولم تقم بإعداد مسلسلات وفنون بهذه اللغة.

إن اللغات هي مرايا أهلها، تعكس ضعف الضعفاء، وقوة الأقوياء.

فالأقوياء يجعلون لغتهم رمزا للعزة والإباء، أما الضعفاء فينسبون لها هوانهم وعجزهم!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد