الذهاب إلى الأمم المتحدة يمثل خياراً سياسياً في أعقاب فشل العملية السياسية ووصول المفاوضات التي استمرت لأكثر من عشرين عاماً إلى طريق مسدود في ظل سيطرة اليمين الإسرائيلي على الحكم في إسرائيل وتبنيه لموقف يرفض من حيث المبدأ فكرة قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران من العام 1967. ويحظى هذا الخيار هو الأول في ظل تراجع خيارات أخرى كالمقاومة الوطنية لمشروع الاحتلال التي أصبحت رمزية وبالحدود الدنيا، حتى المقاومة في غزة أصبحت تخدم اجندات حزبية أكثر من كونها مشروعاً لمقاومة الاحتلال وتحرير الأرض الفلسطينية، وللأسف أصبحت ورقة للعب بين إسرائيل وأطراف محسوبة على المقاومة في غزة. وهذا الخيار عملياً هو الخيار الصائب بالنظر إلى المسؤولية الدولية الأخلاقية والسياسية في نشوء المأساة الفلسطينية وبالتالي هناك دور مؤكد للمجتمع الدولي في حل القضية وانهاء الصراع بتحقيق الأهداف وطموحات الحد الأدنى للشعب الفلسطيني والمتمثلة في حقه في تقرير المصير والاستقلال في دولة خاصة به على اساس الشرعية الدولية.
لكن اعتماد خيار الأمم المتحدة الذي ينبغي أن يكون خياراً دائماً، خاصة بعد فشل تفرد الولايات المتحدة في إدارة العملية السياسية التي تحولت من عملية لإيجاد حل إلى عملية لإدارة الصراع فقط، يعتمد على عوامل ذاتية وموضوعية لابد أن تؤخذ بالحسبان في كل مرحلة. فهناك الدول التي تصوت لصالح قرارات تخص المسألة الفلسطينية وبالذات في مجلس الأمن، حيث أننا نمتلك أغلبية دائمة وشبه اوتوماتيكية في الجمعية العمومية، وهناك مواقف الدول التي تقدم الدعم للشعب الفلسطيني والتي تضع السلطة تحت طائلة العقوبات إذا ما أقدمت على الخروج عن مواقفها وقراراتها وعلى رأسها الولايات المتحدة. ولكن الأهم هو العامل الذاتي وقدرة القيادة الفلسطينية على اقناع المجتمع الدولي بأنها تجمع تحت عباءتها كل القوى الفلسطينية الفاعلة، وأن أي قرار تتخذه أو موقف تعتمده قادرة على فرض الالتزام به، وفي هذا السياق يمثل الانقسام بين السلطة وحركة « حماس » الثغرة الأكبر ونقطة الضعف الأخطر في مواجهة الضغوط الخارجية أيضاً في اثبات الأهلية والقدرة على إدارة شؤوننا وحكمنا لأنفسنا، وإن كان هذا لا ينبغي أن يشكل ذريعة لاستمرار الاحتلال . ولهذا يتوجب الاعداد الجيد لأي خطوة تتعلق بالذهاب إلى المنظمات الدولية حتى لا نحصد اخفاقات وفشل في الساحة التي لا ينبغي أن نفشل فيها إطلاقاً حتى لو واجهنا «الفيتو» الأميركي.
وعندما يجري الحديث عن الأمم المتحدة من الطبيعي أن يقتصر التركيز فقط على مجلس الأمن والجمعية العمومية، بل ان كل المنظمات الدولية مهمة ولها قدرة بصورة أو أخرى على التأثير في الموقف الإسرائيلي وخلق حالة من الضغط المادي والمعنوي على إسرائيل. وفي هذا السياق تلعب محكمة الجنايات الدولية دوراً مميزاً في هذا الجانب، لأنها الجهة الدولية الوحيدة التي تملك الصلاحية في الحكم على جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. وهي تأسست في العام 2002 بعد دخول ميثاق روما الذي وقعت عليه 120 دولة حيز التنفيذ. وبالتالي فالتوجه للانضمام لهذه المحكمة أولاً هو حق لنا باعتبارنا كياناً معترفاً به «دولة مراقبة» وبالتالي من المفروض ألا يشكل الانضمام الفلسطيني لهذه الهيئة أي مخالفة أو يحمل أي أمر سلبي، بل يجب أن يتم تشجيعه من كل الدول العالم كما يتم تشجيع انضمام كل الدول الأخرى، فما أفضل من أن يحتكم العالم بأسره للقانون الدولي وشرعة حقوق الانسان، وبالتأكيد نحن جزء من هذا العالم. وبالتالي نحن عندما نتوجه باي شكوى لهذه المحكمة نحن نختار القانون والحقوق ولا نختار العنف وسيلة لاسترداد الحق مع أن هذا ايضاً حق يكفله لنا القانون الدولي.
الغريب هو رد فعل بعض الدول من توجهنا للمحكمة الجنائية الدولية والذي على ما يبدو هو نابع من حرص هذه الدول على حماية إسرائيل حتى وهي تخترق قواعد ومبادئ القانون الدولي وترتكب جرائم ضد الشعب الفلسطيني. فالموقف الأميركي ليس فقط غريباً بل يدعو للخجل، فكيف تريد واشنطن محاكمة دول متطرفة وتقيم التحالفات الدولية وتستخدم السلاح تحت يافطة الحفاظ على القانون والأمن الدوليين ومحاربة الإرهاب والعنف وفي نفس الوقت تمنع مجرد التوجه للمنظمة الدولية ذاتها لرفع دعوى قد يصدر فيها قرار ضد إسرائيل، أو لا يصدر كما حصل في الدعوى التي رفعتها جزر القمر ضد إسرائيل في قضية سفينة «مرمرة» التركية التي قتلت فيها إسرائيل 9 أتراك في عام 2010 ، حينها كان قرار محكمة الجنايات الدولية أن التداعيات لهذه القضية ليست خطرة بما يكفي لملاحقة إسرائيل قضائياً.
الانضمام لمحكمة الجنايات ينبغي أن يكون توجهاً قانونياً بما له وما عليه وليس سياسياً، على الرغم من أن كل عمل يخص الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي يحتوي بذاته فعلاً سياسياً أو له انعكاسات سياسية. بما يعني ألا يخضع القرار الفلسطيني للضغوط والمناورات السياسية لجهة التقدم بدعاوى من عدمه حتى لو كانت جهات أو شخصيات فلسطينية قد تتعرض للملاحقة وترفع إسرائيل دعاوى ضدها. علينا أن نثبت للعالم أننا جزء من المجتمع الدولي ونحترم قواعده وقوانينه في كل ما لنا وما علينا، حتى لو اضطررنا لتعديل قوانيننا أو استحداث قوانين جديدة، هذا السلوك يجب أن يحكم تصرفنا في كل شيء فنحن جزء من المجتمع الدولي المتحضر.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية