عند قيام الدولة الإسرائيلية عام 1948، عكفت قيادتها على أن تجعل من المحور الغربي، أوروبا وأميركا أساساً، ميداناً لسياستها الخارجية، باعتبار أن الدولة العبرية، هي جزء من العالم الغربي ومنتمية إلى ثقافته، ورغم أن ذلك قد يعود إلى أن هذه الدولة قامت وعاشت في بيئة ترفضها من حيث الأساس والجوهر، إلاّ أن ذلك لم يكن السبب الوحيد وراء انعزالها عن بقية العالم باستثناء العالم الغربي، وأكثر من ذلك، فقد حاولت حكومات الدولة العبرية المتعاقبة طوال أكثر من نصف قرن من قيامها، على اعتبار نفسها، دولة أوروبية وغربية، مستفيدة بذلك من الهجرات الأساسية من هذه الدول إليها. وحتى في الداخل الإسرائيلي كان الانقسام واضحاً بين المهاجرين اليهود من أوروبا والعالم الغربي، وهؤلاء الذين وصلوها من الدول العربية والإفريقية، هي رؤية عنصرية على المستوى السياسي كما هو على المستوى الاجتماعي، وقد ساعدها في ذلك، انضمامها إلى المنتديات الأوروبية، الرياضية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الفنية، وأوروبا تتعامل معها كدولة أوروبية، وتحظى إسرائيل بأرقى أشكال التعاون الاقتصادي والسياسي مع الاتحاد الأوروبي، مقارنة بأية دولة أخرى من دول العالم.


والواقع أن إسرائيل، هي التي أقصت نفسها عن باقي العالم طوال النصف الثاني من القرن الماضي، ولم تكن حريصة على أن تنشط لمد خطوط التواصل والعلاقات مع دول إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وقد أسهم في هذا الانغلاق، المد العربي القومي، وتأثيراته على المحيطين الإقليمي والدولي من خلال دول عدم الانحياز ودول المنظومة الاشتراكية في عهد الاتحاد السوفياتي، والتعاطف والتأييد الواسعين مع القضايا العربية، وخاصة القضية الفلسطينية، ربما ذلك ساعد إسرائيل على أن تتجاهل إقامة علاقات مع مختلف هذه الدول، لقناعتها بعدم جدوى مثل هذا الأمر، خاصة وأن المنظومة العربية، استغلت قدراتها النفطية والسياسية وفي اطار المقاطعة، في لجم أية دولة افريقية على إقامة علاقات مع الدولة العبرية، وشكلت كل من ليبيا والسودان، في تلك الفترة سداً منيعاً أمام تقدم العلاقات الإسرائيلية ـ الافريقية.


في تلك الفترة، اعتمدت إسرائيل بشكل كامل على "الفيتو" الأميركي في مجلس الأمن، لتلافي المزيد من القرارات الدولية المؤيدة للقضية الفلسطينية، غير أن الأمر كان على خلاف ذلك في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث كانت تصوت وبشكل آلي أوتوماتيكي لكافة القرارات المتعلقة بقضايا الشعب الفلسطيني، وظلت إسرائيل متجاهلة دور الجمعية العامة هذا، نظراً للحماية السياسية، ناهيك عن الحماية الأمنية والعسكرية من قبل الولايات المتحدة في مجلس الأمن، وفي كل الأحوال ظلت إسرائيل بمنأى عن تنفيذ أية قرارات، سواء تلك الصادرة عن مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة.


انهيار الاتحاد السوفياتي وتفتت وتشقق دول أوروبا الشرقية، مكن الدولة العبرية من التأثير على النظم الجديدة المتشظية عن الاتحاد السوفياتي، ما أسهم في مساعدتها على غزو سياسي لدول البلطيق والبلقان، ويمكن من خلال مراجعة التصويت مؤخراً في الجمعية العامة، أن هناك دولاً كانت تصوت دائماً لصالحنا بدأت تمتنع عن التصويت، وربما نشهد في زمن لاحق تصويتها لصالح إسرائيل، ما فتح شهية الدولة العبرية، خاصة بعد التغيرات الدرامية في الخارطة السياسية في المنطقة العربية، وخاصة تداعيات "الربيع العربي" وانزياحات سياسية في خريطة الأنظمة، على غزو سياسي ممنهج في إفريقيا، وسرعان ما أحرزت إسرائيل تقدماً واسعاً وسريعاً في هذه القارة، مستفيدة من دعمها للأنظمة الإفريقية التي تعاني من الحروب الداخلية والمعارضة المسلحة، وهي دول ذات أنظمة مستبدة في الغالب، وأمدت هذه الدول بأدوات القمع، إضافة إلى المشاريع الزراعية والصناعية، حتى أنها أقامت قواعد عسكرية للتدريب والاستطلاع والتحفز، في البر كما في البحر.


لذلك، لا يمكن النظر إلى زيارة الرئيس التشادي إلى الدولة العبرية، كمفاجأة، بقدر ما يتعلق الأمر بسياسة ممنهجة ومدروسة بدقة. وفي الوقت الذي أخذت فيه بعض الدول الأوروبية موقفاً نقدياً ضد السياسات الاستيطانية الإسرائيلية، فإن الدعم السياسي القادم من إفريقيا للدولة العبرية من شأنه أن يُحدث تطوراً بالغ الأهمية والخطورة على مستقبل الدولة العبرية في المحيط الدولي، باعتبار ذلك شكّل نقلة مفصلية من العزلة إلى السيطرة!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد