تتطور الهويات بشكل ملفت مع الزمن وتتخذ تعبيرات مختلفة تساهم بطرق مختلفة أيضاً في صقل الشخصية وتمظهرها. ومما لا شك فيه أن التاريخ البشري برمته لم يكن إلا بحث الإنسان عن التطور من خلال التكييف مع الطبيعة أو الاستيلاء عليها ومن ثم توظيفها لرفاهيته. وخلال كل تلك العمليات كان نمو الهوية يتم بالالتصاق بالخبرات الذاتية والجمعية، ومن المشكوك فيه أن الإنسان يمكن له أن يطور هوية خاصة في واقع مغلق، فالهوية نتاج التفاعل مع الآخرين سواء الاشتباك الإيجابي أو الاقتتال دفاعاً عن الوجود. وفي كل تلك المعارك فإن الفرد ليس إلا نتاج السياق الذي يولد ويتربى فيه. وإذا كان الأمر كذلك فإن الهوية بقدر ثباتها فإنها عامل متغير، بمعني يمكن التأثير فيها. وكثيراً ما تحدث انزياحات في الوعي الهوياتي لدى الأفراد، خاصة إذا انتقلوا إلى مجتمعات جديدة ومختلفة. وفي حالات كثيرة، خاصة في عالم المهاجرين، فإن صراع الهويات ينتج تناقضاً قاسياً يترك أثره على مقدرتهم على التكيف في مجتمعاتهم. وهو تناقض ربما يحله بطريقة جزئية الجيل الثاني عبر القبول ببعض حقائق الواقع الجديد لأنه ولد فيه رغم تأثير المنقول الهوياتي من الأم والأب الأصلانيين، بيد أن الجيل الثالث يحله بطريقة أكثر سلاسة ويغدو أكثر اندماجاً في المجتمع. لذلك فمن السهل وجود شخصيات من الجيل الثالث فاعلة في المجتمعات التي بدت غريبة على وصول أجدادهم لها قبل نصف قرن ربما. 


ما قصدته من السابق، هو التأكيد على الجملة الأولى في هذه المقالة، أن الهوية تتخذ تعبيرات مختلفة وتتطور مع الزمن وحسب السياق، وإن كانت تواجه صعوبات في الكثير من المراحل. الحقيقة أن هذا يفرض تحديات كبيرة في المجتمعات المغلقة، خاصة مع انتشار الإنترنت والعولمة وانكسار الحواجز، وبالتالي تصبح الهوية شيئاً ثانوياً بمفهومها الضيق وتفسح المجال أمام تمظهرات أوسع للتشكل الهوياتي لا يتم التعبير عنها عبر النطاق الضيق للجغرافيا كما هي الحال مع الهوية الوطنية، بل من خلال الهويات الفرعية المعولمة. وحين نقول فرعية فهذا يناقض الحديث الذي ظهر مع ثورة المعلومات حول وجود هوية معولمة، لأن هذا الحديث يفترض وجود هوية واحدة في هذا، وهذا بدوره ينافي منطق العولمة ويقف نافياً مقولاتها المنفتحة على العالم الرحب. فالهويات الفرعية تحمل دلالات التكوين المتنوع التي هي في جوهر خصائص العولمة، ولا يمكن أن تتشكل وفق نمط واحد. فمسار ما بعد الحداثة، ونحن دائماً في مرحلة ما بعد حداثة جديدة، وهذه قضية أخرى ربما نناقشها في سياق آخر، يفرض هذا التحول المستمر في الإحالات الفردية نحو السياق الجماعي، هذا مع اتفاقنا أن السياق الفردي وحده لا ينتج هوية، فالهوية أكثر ارتباطاً بتعريف ذواتنا في إحالة للآخرين. فمن نحن لا يتقرر إلا حين يتم وضعه في سياق مع علاقتنا بهم وكيف نختلف عنهم.


قبل ثلاثة أيام، ذهبت عند الحلاق. كان مشغولاً بنقاش عاصف مع مجموعة كبيرة من الشباب يضع كل منهم كمبيوتره المحمول على حجره. لم أفهم الكثير من النقاش، لكن ما لفت انتباهي ال حماس ة المبالغ فيها ربما التي يمكن استشفافها منه. ربما أن الكثير من الكلمات التي كانت تستخدم كانت غريبة عني، وحتى أن بعضها لم يكن بالتأكيد يعني ما أفهمه منه. كان الأمر يدور حول حرب وتدمير وقوات وعملية تسليح وإعداد والهجوم على قبائل أخرى وكسب نقاط ومبادلتها بالأسلحة والعتاد، وقرى يجمع أن تجتمع تحت راية واحدة. كل هذا لم يعن لي شيئاً أكثر من أنه لعبة يلعبها الفتيان على الإنترنت، ومع الاستماع الجيد بدأت أتلمس أطرافاً مما يشيرون له، وأخذت أربط ما يقولونه بأشياء كنت أسمعها من أطفالي وهم يقضون ساعات يمسكون جوالاتهم ويلعبون ألعاباً مختلفة. كنت في صغري أمضي الوقت مع أترابي في الحارة بلعب الكرة أو بعض الألعاب التي كانت شائعة في منتصف سبعينيات القرن الماضي مثل "الشريدة" و"امسح الخريطة" ومسابقات الجري وربما حروب الحارات التي كانت تصل مرحلة العنف في بعض المرات. لكن كل هذا كان يتم في إطار تزجية الوقت، وفي نطاق العالم الصغير الذي كنا نعيش فيه، والمتمثل في الزقاق والحارة في المخيم، وربما في عالم المخيم الأكبر والأوسع.


سألت صديقي الذي كان يقود اجتماع الشبان عن الأمر. قال: إنهم فريق يشكل قبيلة ستهجم الليلة على قبيلة أخرى. ظننت أنني استمع إلى مقطع من فيلم قديم. سألت: كيف يعني؟ الجواب في لعبة إنترنت يلعبونها. أما القبيلة الأخرى فهم حتى لا يعرفون أفرادها فقد يكونون في الصين أو كولومبيا، هذا ليس مهماً. الحماسة الكبيرة التي يتشاورون فيها ويتبادلون فيها الآراء ملفتة للنظر بشكل كبير. سالته: ماذا تستفيد من كل ذلك؟ قال لي: أنت تستمتع بالكتب وأنا أستمتع بهذه. ثم بدأ يعطي تعليماته لأفراد قبيلته (بالمناسبة جزء كبير منهم افتراضي يرسل لهم التعليمات عبر الرسائل الإلكترونية) قبل أن يعلن عن فض الاجتماع وتنبيههم بضرورة عدم النوم الليلة.


في اليوم التالي، وقبيل مباراة برشلونة وأتلتكو مدريد، سأل شاب آخر: هل سنفوز الليلة؟ لفت انتباهي استخدامه لضمير الجمع في إشارة لانتماء مشترك. هذا الترابط الهوياتي الذي يصل حد التطرف في مرات كثيرة يكشف عن انزياحات كبيرة وعميقة في مفهوم الهوية وخروجها عن نطاق لعبة الحارة وأزقة المخيم. فالشاب يربط نفسه ويعرفها بمجتمع "برشلوني" أوسع كثير منه خارج أسوار ملعب كرة القدم ويتمدد أكثر وأكثر وفق مقتضيات اللحظة. إنه نفس التعريف الذي ينتسب له الشبان وهم يشكلون قبيلتهم التي ستسحق القبائل الأخرى في لعبة إنترنت افتراضية. هل هذه هويات افتراضية؟ ربما لكن المؤكد أنها تعني الكثير بالنسبة لأصحابها وتعني عزوفهم عن تبني الهويات الجمعية الأوسع، وهو ما يجب أن يدق ناقوس الخطر. 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد