لم تكتف واشنطن بأن صوتت ضد مشروع القرار الفلسطيني / العربي المقدم من قبل ممثل العرب في مجلس الأمن، بل وواصلت " حشر أنفها " والانحياز لجانب الاحتلال الإسرائيلي مجددا، وكما هي عادتها دائما، سارعت للإعلان عن معارضتها لإقدام القيادة الفلسطينية على الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية والتوقيع على نحو عشرين معاهدة واتفاقية دولية واعتبرت ذلك بأنه غير بناء!
يلاحظ منذ وقت أن الولايات المتحدة، تنعت كثيرا من المواقف الفلسطينية بأنها غير بناءة، وحيث أن هذا الوصف مطاط، ولا يعني شيئا، لكن مع ذلك فإن ذلك يدفعنا للتساؤل ما هو البناء في نظر أقوى دولة في العالم؟ أهو الإجراءات الاستيطانية، أم استمرار الاحتلال، أم شن الحروب المستمرة على المدنيين، أم استمرار الحصار وتجويع البشر، ما هو البناء والمثمر والمفيد لعامة الناس ولكل سكان الشرق الأوسط، أهو إبادة الشعب الفلسطيني كرمال المعتقدات الخرافية لعدد من الأفراد المعقدين؟.
حتى في تصويتها ضد مشروع القرار في مجلس الأمن، أصرت مندوبة واشنطن في المجلس على القول بان هذا إجراء أحادي وغير بناء، وانه يجب على الطرفين أن يتفاوضا، وهذه اسطوانة باتت مشروخة من كثرة ما رددتها واشنطن وهي تتجاهل حقائق عديدة، في مقدمتها، أن التفاوض قد استمر بين الجانبين عشرين عاما دون نتيجة، ثم وهذا هو الأهم، أن واشنطن تتناسى أن الحديث لا يدور عن بلدين متجاورين، بينهما نزاع حدودي، أو خلاف حول مياه مشتركة أو حول شواطئ أو طرق أو ممرات أو أي شيء من هذا القبيل، فوجود السلطة لا يعني مطلقا أن الطرفين يجلسان، كل في بلده مرتاحا، بل إن الحديث يدور عن احتلال، ولو كانت الحرب الباردة ما زالت قائمة، لكان هناك حديث آخر، أي انه يحق للفلسطينيين، وفق المنطق الإنساني ووفق الشرائع الدولية ممارسة كل أشكال الكفاح، وليس القانوني أو الدبلوماسي فقط، بل بما في ذلك الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي القائم منذ الرابع من حزيران عام 1967، على كامل أراضي الضفة الغربية و القدس الشرقية وقطاع غزة .
ثم الأمر المثير للغرابة إلى حدود الفجيعة، هو ذلك الذي يثير التساؤل، حول كيف يمكن لدولة عظمى، لها حق النقض ( الفيتو ) في مجلس الأمن، أن تقف ضد لجوء أحد أعضاء المجتمع الدولي للشرعية الدولية لمقاضاة احتلال ؟ ! هل يعني هذا أن الولايات المتحدة ضد القانون الدولي وأنها مع قطاع الطرق، وأنها تعود لإرثها حين قام باكتشافها قراصنة البحار وعتاة الإبادة البشرية، ممن أقاموها على أنقاض سكانها الأصليين من الهنود الحمر؟!
الإجابة قد لا تكون بمستوى حدية السؤال، لكنها بالقطع، تظهر مستوى التدني الأخلاقي الذي تتمتع به واشنطن في انحيازها لإسرائيل، ضد الفلسطينيين المغلوبين على أمرهم، المحتلة بلادهم، والذين يتجنبون الكفاح العنيف للتمتع فقط بالحرية والكرامة الإنسانية، ويلجؤون للأمم المتحدة، حتى تجد لهم حلا وفق قوانينها الدولية.
تريد واشنطن أن يظل الأمر _ أمر الفلسطينيين والإسرائيليين _ طي الحوار الثنائي بينهما، وفي أحسن الأحوال، تحت رعايتها، ولا شيء آخر.
وماذا بعد؟ هل هناك احتلال انسحب من تلقاء نفسه؟ بل هل هناك سارق أو مارق أو قاطع طريق تنازل عما سرقه طواعية، ودون ضغط أو إكراه ؟ الجواب بالقطع واضح وصريح، لذا ما على الفلسطينيين إلا أن يدركوا أمرين في آن واحد وهما : أن شمس الولايات المتحدة إلى مغيب، وأنها ليست إله الكون، حتى تمنح هذا الطرف حريته أو تمنعها عن ذاك، وهي بالقطع لن تساعد الفلسطينيين بالذات على نيل حقوقهم، ولن تنجح يوما في التوصل بالجانبين إلى حل الدولتين، وهي لا تتجاوز الموقف الإسرائيلي الرسمي فيما يخص ملف الصراع الفلسطيني / الإسرائيلي . أما الأمر الثاني، فهو عدم فقدان لا البوصلة ولا انفلات الأعصاب، فحتى الموقف الإسرائيلي الداخلي يتغير وفقا لكيفية إدارة الجانب الفلسطيني للصراع، وما علينا _ نحن الفلسطينيين _ إلا أن ن فتح كل أبواب الكفاح الممكنة، فما نيل المطالب بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا غلابا، كذلك، فان الظفر بثمرة الكفاح، لا يكون إلا بمواصلة طريقه، بإصرار وعزيمة، ولم يعد مستحيلا أبدا فرض الهزيمة السياسية على دولة إسرائيل، حتى وهي تتمتع بالانحياز الكامل للولايات المتحدة، ففي نهاية المطاف، لابد لهذه المنطقة من العالم أن تعيش بسلام، كما لابد للعالم بأسره أن " يتحرر " من صلف وسطوة واشنطن على منظمته الدولية.
أخيرا نقول بأننا صرنا ندرك لماذا تبذل واشنطن جهودا عظيمة لثني بعض الدول في مجلس الأمن لعدم التصويت مع مشاريع القرارات الخاصة بالشأن الفلسطيني، فقد كان من شأن تصويت نيجيريا مع مشروع القرار العربي / الفلسطيني أن يجبر أميركا على استخدام حق النقض / الفيتو، لتظهر مجددا على أنها تختار أن تنحاز دائما مع الأقلية وضد إرادة الأغلبية الدولية، كما تفعل في الجمعية العامة حين تصوت إلى جانب جزر الفاو وميكرونيزيا ضد إرادة أكثر من ثلثي سكان الكرة الأرضية، وحين تتكرر هذه المواقف لابد أن تتسع وعلى نطاق دولي متزايد دائرة التساؤل حول جدارة الولايات المتحدة في الاستمرار بقيادة العالم _ بالرغم من إمكانياتها الاقتصادية والعسكرية _ وذلك من الزاوية الأخلاقية، وفيما يخص الموضوع الفلسطيني على أقل تقدير !
Rajab22@hotmail.com
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية