التوقيع على "ميثاق روما" وطلب الانضمام إلى محكمة الجنايات الدوليّة، والاستعداد لتقديم إعلان يحدد الفترة التي سيتم فيها رفع الدعاوى على الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل بدءًا من الثالث عشر من حزيران الماضي، بما يشمل العدوان الإسرائيلي الأخير، إضافة إلى إدراج مسألة ملاحقة الاحتلال على الاستيطان الذي يعتبر جريمة مستمرة يمكن محاسبة إسرائيل عليها بأثر رجعي لأنها لا تسقط بالتقادم؛ خطوة نوعيّة وشجاعة وتستحق التقدير، مع أنه لا شكر على واجب.
الأداء الفلسطيني قبل الانضمام لم يكن يوحي بالثقة بتنفيذ هذه الخطوة، لأن الرئيس ومعاونيه لم يعطوا الأولويّة للوحدة، وقدموا مشروع قرار انفرادي سقفه منخفض، ومن دون توافق وطني، مسّ حتى بصيغته الأخيرة بالحقوق الوطنيّة في قضايا أساسيّة، أهمها القدس والحدود واللاجئين، ومن يريد المجابهة والانتصار فيها عليه الاستعداد لها، وترتيب البيت الفلسطيني أول شروط الانتصار.
يبدو أن الرهان الفلسطيني كان على أنّ الهبوط بمشروع القرار سيؤدي إلى تأييد أوروبا، وخصوصًا فرنسا، وإلى تأييد أو امتناع أميركا عن التصويت، وإلى عدم استخدام الفيتو إذا حصل القرار على الأصوات التسعة المطلوبة. ما حدث أن هذا التنازل أدى إلى تصويت فرنسا إلى جانب مشروع القرار، بالرغم من أن المندوب الفرنسي في مجلس الأمن قال إن بلاده صوتت إلى جانب القرار لكي تمنع انضمام فلسطين إلى محكمة الجنايات الدوليّة، أي اعترفت بحق على حساب حق آخر.
لقد أظهرت أميركا حقيقة موقفها بوصفها إسرائيليّة أكثر من الكثير من الإسرائيليين، عبر بذل جهود كبيرة لثني الدول عن التصويت لصالح القرار، مثلما حدث مع نيجيريا، وتحذيرها باستخدام الفيتو مهما كانت صيغة القرار، إضافة إلى اعتبارها طلب الانضمام إلى محكمة الجنايات تجاوزًا لكل الخطوط الحمر. فواشنطن تريد أن يعود المفاوض الفلسطيني إلى المفاوضات العقيمة من دون ضمانات ولا تعهدات، ما يعطي لإسرائيل الحريّة الكاملة لاستكمال تطبيق مخططاتها العدوانيّة والاستيطانيّة والعنصريّة.
أمام المطالبة الأميركيّة الأوروبيّة و"أطراف عربيّة" بتأجيل عرض مشروع القرار إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيليّة؛ طرحت القيادة الفلسطينيّة إمكانيّة التجاوب مع ذلك إذا تعهّدت عواصم أوروبا الكبرى بالاعتراف بالدولة الفلسطينيّة، في حال لم يمر القرار ولم يؤد إلى استئناف المفاوضات على أساس مرجعيّة جديدة، إلا أنه لم يتم التعهد بذلك.
فالمطلوب من الفلسطينيين إذا لبّوا دعوة التأجيل إعطاء فرصة جديدة لمفاوضات عقيمة تستغل لتعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان من دون ضمانات ولا تعهدات، وهذا إن حدث سيقضي على ما تبقى من المصداقيّة للقيادة الفلسطينيّة التي فقدت ثقة الشعب بها جراء السير طويلًا وراء عمليّة خادعة اسمها "عمليّة السلام"، ولم تحصل على شيء رغم تأجيل تقديم صيغة القرار، والهبوط به وعدم عرضه على اللجنة التنفيذيّة للمنظمة واللجنة المركزيّة لحركة فتح وبقيّة القوى لتنال الرضى الأميركي، ولم تحصد سوى الريح وخيبات أمل من شعبها ومن القوى السياسيّة المختلفة، بل لقد وصل التعنت الأميركي إلى حد تهديد جون كيري باستخدام الفيتو ضد أي مشروع قرار يحدد مهلة زمنيّة لإنهاء الاحتلال مهما كانت صياغته.
الآن، بتنا في وضع جديد أرادت القيادة الفلسطينيّة ذلك أم لم ترد، ومن المفترض أن تتصرف بعده بشكل مختلف عمّا كانت قبله، لأن تقديم طلب الانضمام إلى محكمة الجنايات سيقبل تلقائيًا بعد انتهاء المدة الزمنيّة (ستون يومًا)، وهذا يغيّر الموقف جوهريًا، فالقيادة لا تستطيع التراجع ولا التوقف لأنها لو فعلت ستخسر كليًا، فالأمر سيُصبِح بعد الانضمام للمحكمة في أيدي الشعب وقواه المختلفة عمومًا، وأفراده ومنظماته الحقوقيّة على وجه الخصوص. فمحكمة الجنايات هي محكمة أفراد، ومحكمة من لا محكمة له؛ لذلك لن تتحكم القيادة في الأمر وحدها، بل كل فلسطيني يستطيع الآن تقديم دعوى، ويطلب محاكمة القيادات والأفراد الإسرائيليين على الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل، ويمكن أن يكون ذلك بأثر رجعي منذ تأسيس المحكمة في الأول من تموز 2002، ويشمل الاستيطان الذي يعتبر جريمة مستمرة غير محددة بزمن وفقًا لقانون المحكمة.
كما أن طلب الانضمام سيشكل رادعًا للجرائم التي يمكن أن ترتكبها إسرائيل لاحقًا، ولإدراك حجم التغيير يجب الوقوف أمام دلالات رفع مئات الجنود الإسرائيليين عريضة للحكومة الإسرائيليّة تعرب عن مخاوفهم من التعرض للمحاكمة جراء الجرائم التي ارتكبوها في العدوان الوحشي الأخير على قطاع غزة .
ما سبق يفسّر سبب الغضب والتهديدات والإجراءات الأميركيّة والإسرائيليّة بالرغم من ادعائهم عن قدرتهم على رفع دعاوى ضد القيادات الفلسطينيّة، لأن إسرائيل ليست عضوًا في محكمة الجنايات، كما أنها ترتكب كل أنواع الجرائم، ولن تفلت من العقاب الذي أصبح بمتناول يد كل فلسطيني.
تكمن أهميّة الخطوة إذا كانت بداية خروج القيادة الفلسطينيّة من قفص "أوسلو"، مع أنها جاءت متأخرة ومترددة، وكردة فعل. وستعطي أكلها إذا اقترنت برؤية شاملة وكاملة عنوانها مراجعة التجربة وتغيير القواعد التي حكمت الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، على الأقل منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى الآن.
فعلى أهميّة ما حدث من السعي لتدويل القضيّة من خلال الحصول على القرار الأممي والاعترافات بالدولة من دول منفردة والاستعداد للاعتراف بها من برلمانات دول عدة، بما فيها البرلمان الأوروبي، وتقديم قرار إلى مجلس الأمن وتوقيع اتفاقيات والانضمام إلى مؤسسات دوليّة؛ إلا أن التدويل وحده وطلب الانضمام إلى محكمة الجنايات وغيرها من المؤسسات الدوليّة لا يعدو أن يكون مجرد خطوة نوعيّة لكنها لا تكفي على أهميتها ما لم تقترن بخطوات أخرى، تبدأ بإعطاء الأولويّة لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وتفعيل الإطار القياديّ والمجلس التشريعيّ ومختلف المؤسسات، والتحضير لانتخابات على كل المستويات، وبلورة برنامج قواسم مشتركة، وتشكيل حكومة وحدة وطنيّة حقيقيّة على أساس أنها حكومة دولة، وإعادة النظر في الالتزامات المترتبة على "اتفاق أوسلو" (السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة)، خصوصًا بعد فشل التسوية كليًّا وتجاوز الحكومات الإسرائيليّة لالتزاماتها.
كما تشمل الإستراتيجيّات تعزيز الصمود والتواجد البشري على أرض فلسطين، وتنظيم مقاومة ومقاطعة شاملة متعددة الأشكال، وتفعيل القرارات الدوليّة، خصوصًا الرأي الاستشاري لمحكمة لاهاي و"تقرير غولدستون"، ولا تنتهي باستعادة الأبعاد العربيّة والإسلاميّة والتحرريّة والإنسانيّة للقضيّة الفلسطينيّة المستندة إلى عدالتها وتفوقها الأخلاقي، وإلى تواجد نصف الشعب الفلسطيني على أرض وطنه، وتصميمه على الكفاح من أجل تجسيد حقوقه الوطنيّة مهما غلت التضحيات وطال الزمن.
الإستراتيجيّة الديبلوماسيّة وحدها قفزة في الهواء، والمقاومة وحدها نضال من أجل النضال، فالمطلوب مقاومة تزرع وسياسة تحصد ومن لا يزرع لا يحصد.
إن المخاوف تبقى قائمة لأن القيادة تبدو مترددة وانتظاريّة، ولديها نيّة لإعادة عرض مشروع القرار على مجلس الأمن بصيغته السابقة كما صرح وزير الخارجيّة رياض المالكي ، وهذا أمر سيئ للغاية، لأنه رغم تعديله لا يزال ينتقص بشدة من الحقوق الوطنيّة، واعتمد بشكل انفرادي من دون مصادقة المؤسسات الشرعيّة ولا الفصائل على مختلف أنواعها، بما فيها حركة فتح، إضافة إلى أن الإصرار على طرح المشروع المختل يزيد الخلافات ويبث الفتنة والانقسام ويشجع الإدارة الأميركيّة وإسرائيل وغيرهما على تشديد الضغوط، وربما يشجع على طرح مبادرة في مجلس الأمن تنزع ما تبقى من دسم في مشروع القرار الذي اسمه "عربي"، وهو في الحقيقة "فرنسي"، لأنه تضمن الكثير مما كان في مشروع القرار الفرنسي الذي تحوّل بقدرة قادر إلى مشروع عربي.
لا مفرّ من تغيير قواعد اللعبة جذريًا، لا سيّما عدم العودة إلى المفاوضات الثنائيّة برعاية أميركيّة، حتى لو تم ذلك بغطاء دولي زائف، والطريق معروف يبدأ بتحقيق الوحدة على أسس وطنيّة وديمقراطيّة وشراكة حقيقيّة، والكفاح من أجل تغيير موازين القوى؛ وينتهي بمفاوضات في إطار مؤتمر دولي كامل الصلاحيات ومستمر، يستند إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، بحيث تشارك فيه كل الأطراف الإقليميّة والدوليّة المعنيّة، ويكون التفاوض عندها لتطبيق قرارات الشرعيّة الدوليّة وليس التفاوض حولها.
Hanimasri267@hotmail.com
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية