لا أتفق مع معظم ما طرح من أن إسرائيل في المعركة الأخيرة كانت مربكة وضعيفة، وأنها فقدت زمام المبادرة، وتراجعت على مستوى الردع.


لا أتفق لأن الالتباس الحاصل على هذا الصعيد ـ أي صعيد مفهوم الردع ـ هو التباس يعود بالأساس إلى إسقاطات ذاتية وليس إلى واقع وصيرورات موضوعية.


قطاع غزة لا يمثل حتى الآن أي تهديد استراتيجي لإسرائيل، وعندما يصبح القطاع في مثل هذا الموقع فإن إسرائيل لا تقيم أي وزن للقضايا الإنسانية، ولا تعير أي اهتمام للتطبيع مع بعض البلدان العربية، ولا يهمها حجم الخسائر التي يمكن أن تمنى بها إلى الدرجة التي تمنعها من الإقدام على خوض حرب قصيرة أو طويلة، شاملة أو جزئية، برية أو جوية أبو بحرية.


وعندما يتحول قطاع غزة إلى تهديد استراتيجي جدّي فإن إسرائيل لا تضع في اعتبارها بقاء الانقسام من عدمه، الاحتفاظ بـ» حماس » أو بالسلطة، بل وحتى لا يهمها إن أدى تدخلها العسكري المباشر إلى حالة من الفوضى أو أبقى على قدر معين من النظام.


هذا كله لا يدخل في حسابات إسرائيل إذا كان الثمن هو بقاء التهديد سيفاً مصلتاً عليها، أو أن هذا التهديد وصل إلى الدرجة التي لا يمكن السيطرة عليه بالوسائل السياسية.


المعركة الأخيرة أو التصعيد الأخير على جبهة غزة أكدّ هذه المسألة أكثر من أي وقت مضى.


إسرائيل كما هو معروف سهّلت الانقلاب في غزة واعتبرته ذخراً استراتيجياً لها. أبقت على حصار غزة وحوّلته إلى أكبر سجن في التاريخ المعاصر، وحرمت أهله من كل وسائل العيش، وخاضت ضد القطاع ثلاث حروب كبيرة وعمليات بالعشرات بين أمنية واستخبارية، وهي مستمرة حتى يومنا هذا، وليس هناك ما يمنعها من الاستمرار في هذه السياسة إذا لزم الأمر.


تحوّل قطاع غزة من مصدر إزعاج أمني إلى مشكلة أمنية كبيرة بعد أن أصبح لدى فصائل المقاومة أسلحة صاروخية أكثر فعالية من الصواريخ البدائية التي كانت تمتلكها، وبعد أن تحولت الأنفاق في جزء منها إلى بنية عسكرية لا يستهان بها. لكن الأسلحة التي نتحدث عنها هي أسلحة يمكن أن تكون فعالة في إرباك الجبهة الداخلية، لكن ليس لها فعالية عسكرية مباشرة على البنية العسكرية الإسرائيلية الكبيرة، ولا على أي قطاع من هذه البنية حتى الآن.


وحتى عندما نتحدث عن الجبهة الداخلية فالأمر بالأساس يتعلق بالجبهة الجنوبية عموماً، وبغلاف غزة على وجه التحديد. على ما يبدو فإن التقديرات الحقيقية الإسرائيلية حول هذه المسألة تتراوح بين تقدير باعتبار غزة ما زالت مشكلة أمنية ليس إلاّ، وبين تقدير بأنها يمكن في غضون عدة سنوات قادمة أن تتحول إلى تهديد استراتيجي جدي حتى وان كان «تصنيفها» في عداد المشكلة الأمنية حتى الآن.


وعلى ما يبدو أيضاً فإن المستويات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية تميل لاعتبارات عسكرية وأمنية خالصة إلى الاحتواء السياسي للقطاع، في حين تميل بعض الأوساط السياسية إلى «ضرورة «الحرب على القطاع قبل أن «تستفحل المشكلة»، لاعتبارات سياسية وحزبية ولتنافسات داخلية محتدمة بين أطراف معسكر اليمين، وحتى بين اليمين وبقية الأطراف الأخرى في الوسط و»اليسار».


أما الحقيقة التي تمثلها «غزة» في الواقع القائم اليوم فهي ان اعتبارات سياسية وأمنية أكبر من غزة وأبعد منها هي التي تحول دون اتخاذ استراتيجية نهائية نحوها. أقصد أن هذه الاعتبارات بالذات هي التي تخلق الأوهام حول «تراجع الردع الإسرائيلي»، وحول «الانتصارات» على إسرائيل في الجولة الأخيرة، وحول «التوازن» الذي أدى ويؤدي للذهاب إلى التهدئة.


فما هي هذه الاعتبارات؟!


أولاً: إذا كانت المقاومة في وضع عسكري يمكنها من الردع، وفرض معادلة الهدوء من موقع المنتصر فإن الحرب التي تخوضها أو يمكن أن تخوضها إسرائيل ضد هذه المقاومة هي حرب كبيرة يلزمها تخطيط وإعداد كبيران، ولا يمكن أن تأتي كردة فعل على تصعيد أعقب العملية الإسرائيلية الفاشلة في القطاع، وهو تصعيد كما رأينا وشاهدنا محسوب بدقة سواء عند الطرف الإسرائيلي أو عند المقاومة. يكفي بهذا الصدد الإشارة إلى حادثة الحافلة الإسرائيلية التي كانت محمّلة بالجنود، وتم استهدافها بعد إفراغها منهم، كما يكفي أن نرى كيف الخسائر خارج إطار العملية الأمنية الإسرائيلية في صفوف الفلسطينيين كانت قليلة وقليلة جداً نسبياً.


ثانياً: تبين الآن أن ليبرمان لم يكن وزيراً متنفذاً في وزارة الأمن، وأن وجوده على رأس الوزارة لم يكن فاعلاً على مستويات كبيرة، كما أنه صوّت في اجتماع المجلس المصغر لصالح وقف إطلاق النار وأن استقالته كانت مناورة سياسية صغيرة. ولذلك فلم يكن هناك إرباك كبير وشامل في إسرائيل.


ثالثاً: تراجع نفتالي بينيت أمام ضغوط الحاخامات وأمام نتنياهو لأنه فهم أن المسألة أكبر من غزة، وسقوط حكومة اليمين في هذه المرحلة مسؤولية «لا يقوى عليها في هذه الظروف الحساسة»!


إذاً، أين يكمن السر في هذا كله؟!


ما الذي جعل نتنياهو يتحدث عن إسرائيل في خضم المعركة الأمنية وفي وسطها وقلبها.


وهل ما قاله إسرائيل كاتس هو زلة لسان أم ماذا؟!


أغلب الظن أن نتنياهو المعروف بقدراته العالية على المناورة استطاع إقناع الكل اليميني بأن ثمة معركة عسكرية فاصلة قادمة مع إيران سواء في لبنان أو مضيق هرمز أو كليهما، وأن العرب في حالة إن قامت سيهرولون على إسرائيل لطلب ودها والتطبيع معها، وان إسرائيل ستصبح جزءاً من منظومة شرق أوسطية جديدة تكون فلسطين ضحيتها الأولى وحينها فإن «جَيْب» غزة يعالج بما تمليه الظروف.


هذا ما أراه ولا أتفق مع التسرع في الذهاب إلى استنتاجات ليس لها في الواقع القائم من رصيد فعلي. أما إذا تأجلت أو أُجّلت المعركة مع إيران، أو آن أوانها ليس قريباً فإن غزة ستتعرض لأشرس عدوان وأكبر من كل الحروب السابقة.
وعلى العموم الانتصارات والهزائم لا تُحسب في سياق تصعيد طارئ لأسباب طارئة، وخصوصاً أنه تصعيد حذر ومحسوب بدقة من الطرفين.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد