قلتُ في إحدى الجلسات: "لو كنتُ مسؤولا عن ملف الأسرى في غزة ، لما اعتبرتُ الفلسطيني، جمعة أبو غنيمة أسيرا، لأنه اجتاز الحدود (الوهمية) من النقب إلى غزة، قبل أكثر من عامين، حتى أُجنِّب أهله وذويه الفلسطينيين عناء استجداء إطلاق سراحه من نتنياهو، زعيم ترحيل فلسطينيي النقب والجليل، فجمعة، أولا وأخيرا شابٌ فلسطيني، يمكنني محاكمته واستجوابه كفلسطيني، لا وفق هُويته المفروضة عليه، كما أن الإفراج عنه سينزع من حكومة نتنياهو المتطرفة أبرز شعارات الزيف، بأنها دولة ديمقراطية، فإسرائيل دولة دكتاتورية، ليس بسبب قانون القومية العنصري فقط، بل لأنها تنزع من الفلسطينيين فلسطينيتهم، فتسميهم، بدو النقب العرب!. ولو كنتُ أيضا أملك القرار، لأصدرتُ أمرا آخر بالإفراج عن الإثيوبي، إبراهام منغستو، وتسليمه للصليب الأحمر الدولي، حتى نبرز للعالم بأننا لا نأسر إلا الجنود الذين يقتلوننا، الإفراج عن الإثيوبي هو قرارٌ سياسيٌ موفَّق، لا يجلب تأييد الجالية الإثيوبية في إسرائيل المغرر بها، والمقموعة اجتماعيا داخل هذا المجتمع فقط، بل إنه يعزز روايتنا، بأننا شعبٌ ديمقراطيٌ، حضاريٌ، يحترم حقوق الإنسان!"
علَّق أحدُ المستمعين ساخرا من اقتراحي السابق، هو من المصابين برُهاب العسكريين قال: "ما رأيُكَ لو أطلقنا الأسيرين الآخرين، هدار غولدن، وشاؤول أرون، حلالا، زلالا، حتى نحظى بالتصفيق"؟!!


يخشى كثيرون فتح ملف النقاش في أولويات القيادة، هل قيادة الأوطان حِكرٌ على العسكريين فقط، أي مَن يملكون قيادات الجيوش، وفق ما يُطبق اليوم في كثيرٍ من دول العرب؟ أم أنَّ السياسيين هم الأولى بالقيادة، وعلى العسكريين أن يُنفذوا قراراتِهم؟


وهذا لا يعني أنَّ كل العسكريين لا يُجيدون السياسة، بل إن كثيرين منهم قادرون على أن يُصبحوا سياسيين أكْفاء، بشرط ألا يجمعوا بينهما!


نجحتْ أكثر الدول في العالم في حسم هذا الخلاف والجدل، فمنحت السياسيين البارزين، أو العسكريين، ممن غادروا عسكريتهم، ونجحوا في فن السياسة، مفاتيحَ القرارات الوطنية المصيرية، باعتبارهم أكثر حُنكة من العسكريين قادة كتائب وألوية الجيش.


إنَّ أبرز المبادئ الواجب على السياسيين أن يتصفوا بها، أنهم لا يتأثرون بردات الفعل العشوائية، أو الانتقامية، ولا يقيسون المنافع الوطنية بمقاييس شخصية، ولا يعملون بسياسة الثارات، لغرض الحصول على المكانة، والرفعة، فهم يقيسون الأمور بالمقياس الوطني فقط، السياسيون المُحنَّكون هم مَن يقطعون رقاب خصومهم، بلا سيوفٍ أو سكاكين، أو مسدساتٍ كاتمة للصوت، السياسيون هم أبرزُ المبشرين بالأوطان.


معظمُ دولِ العالم تحظرُ على منسوبي الجيوش الانتماءاتٍ الحزبية، وتصوغ كتائب الجيش صياغة وطنية، وتمحو من الجنود العصبية، والحزبية، والقبلية، والإثنية، ما داموا يؤدون الخدمة العسكرية! فما إن يلتحق الجندي بالخدمة العسكرية حتى يُقسمُ قسم الولاء الوطني، فيصبح وطنيا غير منتمٍ إلى حزبٍ أو فصيل!


أما الأسوأ، أن يُعكس الأمرُ، حين يصبح السياسيون تابعين للعسكريين، يتلقَّون منهم الأوامر، يُنفذونها بسطوة القوة والنفوذ، وليس بكفاءة العقل، والحُجة، فيتحول الجيشُ من سلاحٍ يخدم الوطن، إلى عبءٍ على الوطن، وسلاحٍ ضدَّه، وميليشيا، ولُغمٍ مزروعٍ  لإشعال حربٍ أهليةٍ، أو طائفية!


هذا الهرم المقلوب أوقعَ العربَ في مأزقٍ كبير لم نتخلص منه بعد، فأصبح نقدُ العسكريين أو الجيش أكثر خطورة من نقد المقدسات الدينية، لذا، فإن معظم السياسيين يَخشَوْنَ الخوضَ في إعلان آرائهم المخالفة للعسكريين، والأخطر من ذلك؛ أن يقوم بعضُ السياسيين ممَن أصيبوا برُهاب العسكريين بتطويع آرائهم السياسية لتخدم العسكريين، كي يتمتعوا بمميزات حياتية خاصة بهم. فهم لا يكتفون بالإشادة بالعسكريين في كل المحافل، بل إنَّ كثيرين منهم تجاوزوا ذلك، فأصبحوا يُبررون لهم أخطاءهم، ويُسوِّغون حتى جرائمهم!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد