شُجاعة هي الخطوة التي اتخذتها القيادة الفلسطينية بالتوقيع على 18 اتفاقية أخرى دفعة واحدة، والأمر سوف يكون عاديا لو خلت القائمة من اتفاقية روما المنشئة والمنظمة لعمل محكمة الجنايات الدولية. حيث شكل التوقيع عليها تطورا هاما، بما يعني أن دولة فلسطين قد قررت الانضمام للمحكمة مع سبق الإصرار دون تردد أو خوف، وإن بدا للبعض بأنه يأتي كرد فعل على فشل مشروع القرار المقدم من طرف السلطة إلى مجلس الأمن.
على الرغم من تقديرات السلطة نفسها بأن إمكانية أن يتبنى مجلس الأمن القرار تبدو شبه مستحيلة حتى لو تم تجنيد الأصوات التسعة المطلوبة في ظل تهديد الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام الفيتو لافشاله. لذا قد يكون من المجدي النظر إلى قرار الانضمام للمحكمة ليس كرد فعل وإنما كفعل ولكنه يأتي متأخراً، وأن يأتي متأخراً أفضل، دون شك، من أن لا يأتي أبدا.
وقرار التوقيع ومن ثم الانضمام لمحكمة الجنايات تطور مهم يجب أن يحظى بأوسع دعم فلسطيني ممكن من مختلف التعبيرات السياسية والاجماعية والقانونية، وذلك في ظل اعلان مختلف مكونات الشعب الفلسطيني السياسية وقواه وفصائله ولاسيما حركتي حماس والجهاد، بدعم التوجه للانضمام للمحكمة وهو ما يعكس مسئولية وطنية كبيرة واستعدادا لتحمل تبعاته، طالما في ذلك تجريم للإحتلال ولممارساته وسعيا لتحقيق العدالة للضحايا من أبناء شعبنا وضمان عدم افلات المجرمين بجرائمهم
إن من بين أهم الاعتبارات لدعم التوجه للانضمام لمحكمة الجنايات الدولية:
أولا/ يأتي قرار الانضمام إلى المحكمة في وقت مورست - ولم تزل- فيه ضغوط هائلة على السلطة بعدم الانضمام إلى المحكمة، وهو يمثل رفضا لتلك الضغوط ومقاومة لها. كما يعني الاستعداد لتحدي ومواجهة الإجراءات العقابية المتوقعة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية واسرائيل . وهو ما تلوحان به، سواء من خلال وقف المساعدات للسلطة ووقف تحويل الضرائب المستقطعة وحتى التهديد بمعاقبة الرئيس شخصيا، لذا وجب على الكل الفلسطيني الاستعداد لمقاومة تلك الضغوط وتمكين السلطة من المضي قدماً في طريق الفعل الجماعي، فالكل نظر متشككا إلى إمكانية إقدام الرئيس على اتخاذ هذه الخطوة في وقت كان الجميع ينادي بضرورة الانضمام للمحكمة.
ثانيا/ دعم القرار يجب أن ينظر إليه كمسعى لتعظيم حالة الاشتباك السياسي والقانوني والدبلوماسي مع الاحتلال، في ظل التطورات التي عصفت ولم تزل في الإقليم والاهتزازات الدولية المتلاحقة، التي تجعل من قضية الفلسطينين كشعب تحت الاحتلال تتراجع لصالح تلك التطورات في المناطق المختلفة. كما يجب النظر إليه، وفقا للرغبة والمأمول، بأن يؤسس إلى فعل مبادر متجاوزاً حالة الانكشاف والهشاشة التي لم تنتج سوى ردود الأفعال في وقت قامت ولازالت دولة الاحتلال وفي صراع محموم مع الزمن بتفتيت الجغرافيا والديمغرافيا الفلسطينية على طريق حسم القضايا الكبرى في الصراع وخلق حقائق تمس الوجود الفلسطيني فوق الأرض الفلسطينية.
ثالثا/ تأتي هذه الخطوة لتصحيح ما دأب عليه المجتمع الدولي من ثابت في الاشتباك السياسي والتفاوضي مع هذا المكان من العالم بأن السلام والعدالة لا يلتقيان، والتعامل مع التوجه إلى محكمة الجنايات كفعل أحادي يقوض عملية السلام. إن السلام الحقيقي هو الذي يجرى تأسيسه على قواعد العدالة والشرعية، وكيف يمكن لملاحقة المجرمين أو إنصاف الضحايا أن تتعارض وأي عملية سلام.
رابعا/ قد تشكل هذه الخطوة فرصة هامة للتقدم خطوة أخرى نحو تحقيق العدالة المغيّبة عن هذا المكان من العالم بما يتيح لآلاف الضحايا من المدنيين الفلسطينيين وعائلاتهم التقدم للمحكمة طلبا للعدالة والنصفة، ولضمان عدم إفلات مجرمي الحرب الإسرائيليين من العقاب. إن إقدام دولة الاحتلال على شن 3 عدوانات على القطاع في أقل من ست سنوات وارتكاب قواتها لجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية لم يكن له أن يحدث دون غطاء دولي وفّرته أطراف كثيرة من المجتمع الدولي لم تكتفِ فقط بالتسامح مع ما ارتكب من جرائم بل عملت على صد أي محاولات أو ممكنات لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين سواء في المحاكم الوطنية أو بتقويض عمل لجان التحقيق الدولية أو حتى عدم السماح لأطراف غير حكومية ومحايدة من الوصول إلى مسرح الجريمة والتحقيق فيما ارتكب من جرائم.
على ضوء ذلك أعتقد أنه لم يعد من خيار سوى أن يأخذ الفلسطينيون قضيتهم بأيديهم في طريق ذو اتجاه واحد لا رجعة فيه هو طريق العدالة والاشتباك السياسي والقانوني وذلك بالانضمام إلى محكمة الجنايات مهما كانت الكلفة السياسية التي سيدفعونها في سبيل ذلك.
خامسا/ إن انضمام فلسطين إلى هذه الاتفاقيات ومن قبلها التوقيع على اتفاقيات حقوق الانسان هو تظهير لجدارة الفلسطينيين وأحقيتهم الأخلاقية والقانونية، بالحصول على حقوقهم المشروعة وحقهم الأصيل في تقرير مصيرهم وحصولهم على دولتهم وبأن يكونوا جزءاً من جماعة الأمم، بل ويتفوقون على كثير منها وذلك بالتوقيع على الاتفاقيات المشار إليها دون أي تحفظ على أي من أحكامها.
سادسا/ ليس لدى فلسطين ما تخفيه أو تخاف منه في التوجه للمحكمة، ومن يخاف التوجه للمحكمة هو من ارتكب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، فالفلسطينيون هم الضحايا وهم من ينشدون النصفة والعدالة، ورد الفعل الإسرائيلي يعكس تخوفاً حقيقياً من التوجه الفلسطيني للمحكمة لأنها تدرك أن ما ارتكبته قواتها في قطاع غزة وفي الضفة الغربية و القدس هي جرائم حرب تستوجب ملاحقة من اقترفها ومن أمر باقترافها من المستويات السياسية والأمنية والعسكرية.
إن التوقيع على الاتفاقية والانضمام لمحكمة الجنايات تطور مهم وخطوة شجاعة ولكنها نقطة بدء وبداية لمعركة قد تكون طويلة، فهي ليست بذاتها بل بما يجب القيام به في اليوم التالي لدخول الاتفاقية حيز النفاذ في الأول من مارس القادم، عندها يمكن القول أن المعركة الحقيقية قد ابتدأت، وهي بحاجة لتضافر كل الجهود الرسمية والأهلية وهي معركة لا تحتمل التردد أو أنصاف العمل المهني والمحترف أو أنصاف النجاح، بل هي تتطلب عملاً مهنياً محترفاً ونجاحاً مكتملاً، بعيداً عن التوظيف النفعي السياسي أو القفز في الهواء.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية